مقالات

قطار الموت

قطار الموت

دائما ما كنت أشعر بارتياح شديد فى رحلاتى عند استقلال قطار للسفر بل وسعادة غريبة تملؤنى وكأننى فى ليلة العيد؛ إذ يحيطنى من كل جهة أبناء بلدى وأهلى الطيبين والذين رغم ظروف بلادنا وما نعانيه جميعا إلا أن ابتسامتهم البسيطة والنقية لا تفارقهم ولم يتخلوا عن جدعنة أولاد البلد فى مواقف كثيرة بالرغم من تشوه أغلب ثقافتنا وتشبهنا بالثقافات الغربية والأمريكية على وجه التحديد والتى أصبحت آثارها جلية للجميع إلا أنه لا يزال فينا هذا الحنين للعودة لثقافاتنا حيث ما زالت الأحزان والآلام تجمعنا ومازلنا نحتفظ ببعض من روح أجدادنا بنفس الروح المتفائلة التى كانت تصبرنا دائما وتقول (تبات نار تصبح رماد) كانت تلك الروح من حولى فى القطار الذى يعانى من بعض الأعطال فى أبوابه أو شبابيكه التى تجعل الهواء منطلقا بداخل القطار تلاطف نسماته وجوه الركاب المعبرة عن البساطة فى المعاملات والابتسامات والأرواح والآمال والأحلام ومن النافذة المهترئة التى لم تعد تُغلق، ترى جمال الخضرة والبيوت المصرية البسيطة والنخيل الذى يعطى روحى أملا وأمان بحضن الوطن الذى ترتبط صورته فى قلبى بالنخيل والنيل والأهرامات وفى نهاية الرحلة تكون روحى قد امتلأت بالأمل من جديد بأنه هناك فرصة للصعود ببلادى إلى ما هو أفضل إلى مستقبل مشرق ومزهر أن غدا ستحارب بلادى الجهل والفساد والفتن بتلك الوجوه البريئة والقلوب الطيبة والابتسامة النقية غير أننى مؤخرا اكتشفت أنه قد لا يصل القطار بنا إلى وجهتنا حتى يترك لنا الأمل أو فرصة لبناء المستقبل حيث إنه لم تعد تكفى البراءة أو الطيبة والنقاء لمواجهة وحش الفساد الذى تجبر وتكاثر حتى أصبحت الابتسامة النقية والطيبة والبراءة غذاء له يعطيه الفرصة كى ينمو فوق رؤوسنا، فوق أجسادنا، فوق مدينتنا، فوق بيوتنا وعلى جثث الأحباب من أهلنا يحرق نخيلنا كى ينير عتمة جهله وتسلطه ويهدم بيوتنا كى يبنى قلاع الظلم والتجبر ويقتل أطفالنا بل يتاجر بأجسادهم ليحيا أطفال المتسلطون علينا بأموالهم أو من يتمتعون ببلاد حقيقية تراعى ما يسمى بحقوق الإنسان والتى قد لا يعلم الكثير من أهلنا الطيبين عنها سوى أن يحيا للغد حتى وإن بات جوعانا أو مريضا يشكوا من عدة أمراض فى مناطق متفرقة من ذلك الجسد الذى أنهكته الحياة فى بلادنا الحبيبة جراء السعى وراء لقمة العيش ورعاية أسرته وكفاية نفسه وأهله جوع البطن دون غيره من أنواع الجوع الإنسانى وشتى الاحتياجات المختلفة لما يسمى بحقوقه أو ما يطلق عليه (حقوق الإنسان) استفقت من أحلامى السعيدة وذكرياتى العتيدة بالقطار على خبر اصطدام قطارين مما أدى إلى وفاة وإصابة عدد ليس بالقليل من أبناء بلدى وأهلنا البسطاء وسريعا ما عادت بى الذاكرة أن مثل هذه الحادثة تتكرر كثيرا فى بلدى الحبيب، فمتوسط عدد حوادث القطارات في مصر كل عام حوالى 120 حادثة قطار سنويا بمتوسط عشر حوادث كل شهر!
لا أعلم كيف يحدث فى بلد حضارته سبعة آلاف سنة أن نفقد القدرة على الإدارة والتخطيط والرقابة فى أبسط صورها بعد أن كنا بهذا التقدم أن نصل إلى ما نحن عليه الآن، فمثلا الهرم الأكبر الذى يطلق عليه هرم (خوفو) وهو من عجائب الدنيا السبع الذى مازال قائما إلى يومنا هذا يبهرنا ويبهر العالم من حولنا بما أنجزته حضارتنا القديمة والذى تقول كتب التاريخ أن عملية بنائه استمرت لمدة عشرين عاما بجهد ما يقرب من مائة ألف رجل ويُذكر أيضا أن عددهم عشرون أو ثلاثون ألف فقط، فكيف لعمل مثل هذا أن يكتمل وأن يتم على أكمل وجه وأن يظل طوال هذه القرون شامخا أمامنا دون أن يمتلك القائمون عليه العلم والخبرة وأسس التخطيط والتنظيم والرقابة بل وقبل كل ذلك التنسيق بين هذه الجهود والتى تمثل مهمة إدارية عظيمة بل وضخمة جدا…

فكيف وصل بنا الحال إلى ما نحن عليه من إهمال وجهل وعدم تقدير لأرواح البشر فالقطارات ولو كانت جزءًا من منظومة وسائل المواصلات إلا أنها تظل جزءًا مهمًا جدا جدا وتعتبر من أهم وسائل المواصلات التى يحتاجها المجتمع لقدرتها على نقل الحمولات الثقيلة والأعداد الكبيرة من الأفراد ولمسافات بعيدة وبسرعة تفوق أغلب وسائل المواصلات الأخرى مما يجعلها ذات أهمية عالية لأى دولة متقدمة أو تسعى للتقدم حيث تساهم فى تحقيق شتى أهداف التقدم سواء الاقتصادية أو الاجتماعية كانت أو حتى العسكرية منها وما يدعوا للحزن فعلا أن نرى حالة مواصلة بهذه الأهمية بالشكل المزرى الذى وصلنا إليه حاليا وكيف وصلنا لهذا الحد من الإهمال والجهل وعدم التخطيط والمتابعة والرقابة وهانت علينا أرواح البشر أن تزهق جراء الإهمال والجهل الذى أصبح جليا لنا جميعا حيث يؤثر بشكل أو بآخر فينا جميعا بمختلف مستوياتنا الفكرية والمادية وتكرار حوادث القطارات بمثل هذا الشكل والتى تصل ل10 حوادث شهريا لهو أمر مفزع ومؤلم لهو دليل قوى وفظيع على كم الإهمال والجهل الشنيع الذى باتت تعانى منه بلادنا والذى بات يضرب فوق رؤوسنا ناقوس الخطر المحدق بأحلامنا وآمالنا فى تقدم ورفعة بلادنا الحبيبة وحتى آمالنا البسيطة فى أبسط حق لنا ولأطفالنا فى الحياة فقط دون التجرؤ على أية أحلام أو أمنيات أخرى مهما كانت بسيطة ومشروعة لدى الآخرين.
وفى النهاية استفقت على جهل وإهمال يطيح بكل أحلامنا واستفقت على واقع مرير نعانى جميعا منه ولا نعلم أن ما نعانى منه هو الجهل وهو المرض العضال الذى أصبحت تعانى منه أغلب المجتمعات وليس مجتمعاتنا الفقيرة فقط فالجهل أبدا ليس مرض الفقراء فقط وليس الجهل أن تفتقر للقراءة والكتابة
بل الجهل أن تجهل بنفسك وبذاتك وإنسانيتك وحقوقك وواجباتك والجهل أن تترك الفساد يعشش فوق رأسك وتأمل أن يأتى الغد محملا بالأمانى المتحققة والأمان والنظام والتقدم والرقى والرخاء
ففاقد الشىء لا يعطيه يا صديقى.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

رحيل محمد

عضوة بفريق بالعقل نبدأ بالقاهرة

مقالات ذات صلة