قضية الشعب الفلسطيني من زاوية ثقافية
في محاضرة لي ألقيتها ضمن سلسلة لقاءات بعنوان “فلسطين.. جوهر الصراع العربي – الإسرائيلي” تعقدها لجنة الحريات بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر، قلت إن البعد الثقافي للقضية الفلسطينية يتم التعامل معه بإهمال شديد، رغم أنه يمثل جوهرها، ويحمل جزءًا كبيرًا من الحل المنتظر لها.
فالثقافة لا تقتصر على الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، إنما هي أشمل وأعمق من ذلك، إذ تحضر في الرؤى والتصورات والأفكار العامة والطقوس وطرائق العيش والخبرات والانتماءات والهويات والمخيلات والأحلام والذكريات وعلاقة الإنسان بالمكان والزمان وإدراكه لذاته ومجتمعه والعالم حوله، وفهمه أيضًا للطبيعة.
والآداب والفنون الفلسطينية على اختلاف ألوانها، ولا سيما الشعر، طالما دافعت عن القضية وروجت لها، لكنها لا تمثل وحدها الثقافة التي تحمل القضية على كتفها، إنما هناك الحكايات الشفاهية وأساليب الحياة التي علمت الفلسطينيين الصمود والثبات في أرضهم.
إن الثقافة كانت العامل المنسي دومًا الذي لا يحضر إلا إذا عجز الباحثون عن تفسير ظاهرة سياسية أو اقتصادية ما، فيرجعونها إلى أسباب ثقافية ترتبط بمعارف الناس والقيم التي تضبط سلوكهم، لكنها صارت عاملًا أساسيًا في التفسير خلال العقود الأخيرة.
رغم ذلك لا نزال نهمل البعد الثقافي في فهم طبيعة القضية الفلسطينية، أو التفكير في مساراتها ومآلاتها، وهو خطأ شديد، لأن إسرائيل قامت أساسًا على ذرائع ثقافية مرتبطة بتأويلات نفعية للنص التوراتي عن أرض الميعاد، وفي المقابل يتكئ قطاع من الفلسطينيين على تصورات مناهضة، أو تسهم في تعبئهم في الكفاح ضد الاحتلال.
تحاول إٍسرائيل أن تضفي على القضية الفلسطينية طابعًا يجعل منها “صراع هويات دينية”، ولا يجب الانسياق وراء هذا، بل الرد عليه بإظهار الجانب الإنساني للقضية باعتبارها كفاح من أجل تحقيق المصير، ونضال ضد احتلال استيطاني.
إن الحرب الدائرة على غزة أظهرت بوضوح أن قطاعًا من اليهود يقفون ضد الاعتداءات الإسرائيلية، بل بينهم من يعتبر قيام إسرائيل خطيئة دينية وسياسية من الأساس، وإذا كان هناك مسيحيون إنجيليون يساندون إسرائيل لأسباب تتعلق بإيمانهم ببعض تأويلات العهد القديم فهناك مسيحيون من الإنجيلية المشيخية لا يؤمنون بهذا، وخرج ملايين الكاثوليك في أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية في مظاهرات رافضة الاعتداء على الفلسطينيين.
هنا يجب أن يمد الفلسطينيون، ومعهم الشعوب العربية المؤيدة لهم، أيديهم إلى اليهود والمسيحيين وأتباع المعتقدات كافة، وحتى اللا دينيين والملحدين، الذين يتعاطفون مع حقوق الشعب الفلسطيني لأسباب إنسانية. في الوقت نفسه هناك ضرورة لفتح نوافذ التعامل مع فلسطينيي 48 الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، وعدم اعتبار ذلك تطبيعًا.
إن حرب “طوفان الأقصى” تعيد تشكيل صورة إسرائيل، فيعي العالم جيدًا أنها تمارس “الاحتلال التقليدي” الذي قام قرونًا في الحقب الاستعمارية، وكانت البشرية تظن أنها فارقت هذا الدرب، كما تعيد صياغة علاقة الفرد بالدولة في إسرائيل، إذ أصيبت الدولة الجاذبة الحامية الحريصة على قوة “المخزن البشري اليهودي” إصابة بالغة، مع استهانة الحكومة الإسرائيلية الحالية بأرواح الأسرى، على النقيض مما كان معروفًا من قبل.
ضمن البعد الثقافي أيضًا تأتي قدرة المقاومة الفلسطينية على ربح معركة الصورة، مع مواصلة قتل الجيش الإسرائيلي لأطفال غزة ونسائها، بما جعل الناس حول العالم يراجعون الصورة النمطية لإسرائيل على أنها ديمقراطية وسط الطغيان، وحمل وديع وسط قطيع من الذئاب. كما نجحت المقاومة في تبديد صورة الكائنات الشريرة المتوحشة التي رسمتها لها إسرائيل بحسن معاملة الأسيرات والأسرى الإسرائيليين.
البعد الثقافي في انشغاله بالمجازات والمصطلحات يجعل الحصفاء ينتبهون إلى استعمال إسرائيل للغة التي تقارب بها الحرب، وفي مطلعها حصر عدوها في حماس، بينما الحقيقة تبين أنه ليست حماس وجناحها العسكري “القسام” وحدها، هناك آخرون، إنها المقاومة وإن تفاوتت الإمكانيات واختلفت الأفكار، فلا يجب أن يجاري البعض بحسن نية رغبة تل أبيب في تسويق الأمر على أن حماس وحدها من تقاتل، وأنها وحدها التي يستهدفها جيش إسرائيل. إسرائيل تستهدف فلسطين كلها في غزة والضفة والشتات.
لا يمكنني في هذا المضمار أن أتجاهل موقف أغلب المثقفين العرب، لا سيما من أصدروا بيانًا ساندوا فيه المقاومة الفلسطينية، واعتبروا طوفان الأقصى نتاج ظلم وقهر طويلين، ودعوا مثقفي العالم إلى أن يتصدوا للعدوان الإسرائيلي، ويدافعوا عن الحقوق الفلسطينية المهضومة.
أهمية هذا الموقف أنه جاء في وقت كان هناك من يظن أن الأموال التي أنفقت، والجهود التي بذلت، وسط المثقفين لجعلهم يتخلون عن القضية الفلسطينية قد نجحت في إزاحتها كي لا تكون قضية العرب المركزية.
إن إسرائيل حين تقتنع أن الحل العسكري لن ينفع في إجبار الفلسطينيين على التخلي عن مطالبهم، وأن مقولة “أرض بلا شعب” محض وهم كبير، لن تجد أمامها من سبيل سوى الحل الثقافي، الذي قد يأتي على غرار ما جرى في جنوب إفريقيا، ويستعيد في الوقت نفسه تجربة الوجود اليهودي في تاريخ الشرق العربي عمومًا، وفي فلسطين خصوصًا، الذي لا يقارن بما تعرضوا له من نبذ واضطهاد في الغرب.
لقد صارح مناحم بيجن توفيق الحكيم حين أرسل له الأخير مطالبًا بإقامة دولة للفلسطينيين حتى يقوي المسار الذي سلكه الرئيس السادات بإبرام اتفاق سلام مع إسرائيل، فرد بيجن: لا نستطيع، لأن هذا يشكل خطرًا على إسرائيل. والسؤال الآن: إذا كانت إسرائيل ترفض حل الدولتين، ولا تريد أن تؤدي ما على القوة المحتلة من واجبات حيال السكان الواقعين تحت الاحتلال، فما عسى الفلسطينيون أن يفعلوا؟ هل عليهم فقط أن يقبلوا التهجير عن بكرة أبيهم؟ إن هذا لن يتحقق، ولعل الحرب الدائرة حاليًا تبرهن على ذلك، ما يعني أن التصور الثقافي الإسرائيلي حول الصراع بحاجة ماسة إلى تغيير.
مقالات ذات صلة
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا