مقالاتفن وأدب - مقالات

قصة “قميص الأستاذ”

سرد لنا أستاذ اللغة الفرنسية بالمرحلة الثانوية أحد المواقف التي تعرض لها أثناء بعثته لفرنسا لعدة شهور، حيث دخل محلا للملابس واشترى قميصا ودفع ثمنه، وكانت وقتها العملة هي الفرنك الفرنسي، وبعدما ذهب أستاذي إلى المنزل وجد بالقميص ما يعيبه، فلم يتوانى وعاد أدراجه مسرعا وهو يحدث نفسه.. حتى الغش طالت سطوته هذه البلاد؟!

ولما دخل المحل غاضبا قالوا له: “انظر يا سيدي إلى التيكت الموجود بداخل القميص، لم نخدعك، فقد كتبنا عليه أن ثمنه الأصلي ١٠٠ فرنك،  ولأن به عيبا فهو يُباع ب ٦٠ فرنكا فقط”، فيقول أستاذي: “لم أجد ما أرد به غير الاعتذار.. لكنني أدركت مدى صدقهم وأنهم تقدموا لأنهم أخذوا بمبادئ الإسلام التي تركناها! وتذكرت صدق مقولة الإمام محمد عبده”.

هل صدقت فرنسا مع غيرها؟

قلت له: “نعم صدقوا مع أنفسهم، لكن هل صدقوا مع  غيرهم؟”، اندهش أستاذي قائلا: “كيف ذلك؟!” قلت له: “لا يغرنك يا أستاذي أن يلبس الباطل ثوبا أنيقا بهيا من الحق. أليست فرنسا وإنجلترا أصحاب أكبر مشروع تقسيم استعماري في بلاد المشرق العربي والعالم كله (سايكس بيكو)؟ ألم تكن فرنسا قبل ثورتها الشهيرة صاحبة أكبر معتقل في تاريخ البشرية وهو سجن الباستيل؟!”

قال: “نعم ولكنها أصبحت الآن عاصمة الفن والجمال!”. قلت له: “أصبحت كذلك بالفعل، ولكنها أجهزت على مجتمعات وأمم بأسرها وجعلتها تعيش في غياهب وظلمات من التخلف حين سلبت فكرهم قبل أن تسلب خيرات أراضيهم، وحتى عندما خرجت منها جعلتها  تعانى”.

قال: “مم تعاني؟” قلت: “تعاني ويلات التعلق بهم والعيش في رِكابهم وطمس هويتهم حتى اليوم”. استنفر أستاذي من هذا الحديث، ويبدو أن بريق وسحر باريس الذي شُغف به قلبه وعقله والذي لم يتركه إلا من أيام قليلة مازال يسيطر عليه دون أن يسترجع من التاريخ صفحاته الحقيقية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قلت له: “هدئ من روعك أستاذي ولا تجعلنا نقع في مغالطة الهيمنة وسيطرة أصحاب السلطة على عقول الآخرين حتى يعبر عقلي بما فيه إلى العالم الخارجي بسلام، ودعنا نتبادل الأدوار وأسألك أنا”. قال: “إسأل يا فيلسوف!”، قلت له: “لما استعمروا بلادنا العربية لم عَمِدوا إلى إضعاف وتوهين اللغة العربية؟”، قال: “لنشر لغتهم وجعلها محل لغة البلاد الأصلية!”.

الخطة البديلة

قلت له: “أحسنت! وها نحن نرى النتيجة حتى اليوم في الجزائر والمغرب وتونس، صارت لغة المحتل لغتهم التي يتحدثون بها وتسيطر عليهم، أليس كذلك؟!” قال: “نعم.. لكن في مصر لم يحدث ذلك رغم احتلالها حقبات تاريخية متوالية من أكثر من محتل”. قلت له: “نعم لأن ذلك لم يكن سهلا في بلد الأزهر الشريف، ولكنهم فكروا في خطة بديلة ماكرة”.

رد أستاذي قائلا: “ما هي يا عبقري زمانك؟”، قلت له: “المدارس الأجنبية، نعم جعلوا المدارس الأجنبية المعول الذي يهدم بلا صوت ولا ضجيج، وينهش بأنياب حادة في جسدنا، في لغتنا وأصالتنا العريقة”.

قال: “صدقت! بدلا من أن يتقن الأبناء في مهدهم لغتهم الأصلية الأصيلة أصبح تعلم اللغات الأجنبية الهدف الأسمى ومفخرة الطبقات الأرستقراطية وأبناء الأثرياء وحلم يسعى إليه الفقراء!”.

“أتعلم أستاذي أن أكثر لغة ثراء في العالم لا تمتلك أكثر من ثلاثين ألف كلمة؟ والقرآن وحده يملك خمسين ألف كلمة ومعنى!” قال: “لله درك يا فتى! الآن أدركت قيمة الكُتّاب الذي تخرجت منه وتخرج منه العمالقة والأفذاذ من العلماء والمفكرين والأدباء على مر العصور”.

هز أستاذي رأسه قائلا: “إذا أردنا الخروج من عنق الزجاجة فلا وصاية على العقل كي ننتج فكرا راقيا، بدأ الأول وتفوق الثاني، تعلمت من تلميذي اليوم الكثير، حقا! اليقظة في إدراك الماضي وعلاقته بالحاضر واستشراف المستقبل ضرورة ملحة، حق علينا أن نحفر البئر قبل أن نصاب بالعطش”.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

محاكم التفتيش الفرنسية

الاستعمار الفرنسي ومعركة الوعي في إفريقيا

 التراث أم الحداثة

أ. هاني موسى

كاتب صحفي وروائي