مقالات

فَسبكَ، يُفسبِك، فهو مُفسبِك أو فيسبوكي!

هل ثمة خطورة مستقبلية على اللغة العربية من تدفق كثرة من مصطلحات اللغات الأجنبية إليها، لا سيما في مجال العلم والتكنولوجيا المتسارع باكتشافاته الضخمة؟ أم أن الحفاظ على اللغة وتجنيبها عوامل الفناء يقتضي استيعاب هذه المصطلحات لتصبح جزءًا من نسيجها؟

قفز هذا السؤال إلى ذهني حين فرض استخدام الفيس بوك (والإنترنت عمومًا) على اللسان العربي مصطلحات جديدة؛ مثل (فَسبكَ، يُفسبِك، فهو مُفسبِك أو فيسبوكي)، أو (جَوجل، يُجوجِل، فهو مُجوجِل – يستخدم محرك البحث جوجل).

الصراع بين الفريقين

وقد وجدت أن ثمة فريقين يتنازعان في هذا الصدد؛ الأول هو الفريق الكلاسيكي المتمسك بالفصحى انطلاقًا من تمسكه بهويته الدينية والتاريخية والثقافية والقومية، ومن ثم الرافض لأي تحديث أو تشويه للغة بدعوى إمكانية إحلال مفردات عربية أصيلة محل المصطلحات الدخيلة.

أما الثاني فهو فريق المحدثين الداعي إلى استيعاب الجديد والدخيل من الكلمات والمفردات باعتباره ضرورة تفرضها مواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي والارتقاء الحضاري. وقد احتج هذا الفريق بأن هذا الاستيعاب يزيد من حيوية اللغة وخصوبتها، مثلما هو الحال في اللغة الإنجليزية التي استوعبت كثرة من مفردات لغات العالم المختلفة، حيث لا مجال للقول بقدسية اللغة، لأن القرآن ذاته استخدم ألفاظا فارسية (مثل استبرق وسندس وقنطار)، وهي كلمات تخالف كل الأوزان العربية.

هذا فضلاً عن استخدام العرب في صدر الإسلام للعديد من المصطلحات الدخيلة (مثل ديوان، إبريق إلخ)، وهو ما أدى لإنماء ثروتهم اللغوية، وكذلك استخدامنا الحالي لكلمات مثل تلفاز، إلكترون، فلسفة، شيزوفرانيا، استمارة (كلمة تركية)، بفتة (كلمة هندية تعني القماش الأبيض)، خبل (كلمة فارسية تعني الجنون)، إلخ.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اعوجاج اللسان علامة على اعوجاج الحال

يقودنا ذلك إلى سؤال آخر: هل نترك أمر اللغة لفقهائها من شيوخ المجامع اللغوية لتحنيطها بمصطلحات يصعب تداولها في غمار الكم الهائل من اللهجات العربية المختلفة، أم يقتضي الأمر مشاركة الناس (على اختلاف ثقافاتهم) في كتابة المعاجم العربية، مثلما هو الحال بالنسبة لقاموس أكسفورد مثلًا، حيث يُطلب من الناس إرسال الكلمات التي يعرفونها إلى لجنة تقوم بعد تفحصها بإضافتها إلى القاموس؟

من جهة أخرى، لعلنا نُفاجأ جميعًا بمأساة اللغة العربية على ألسنة الإعلاميين والكُتاب والقضاة والسياسيين وغيرهم، حيث تبدو لغتنا الجميلة كشجرة جرداء تتساقط أوراقها على مرأى ومسمع من العالم أجمع، تبدو كعروسٍ فقدت بهاءها ورونقها، تتلوى وتحتضر جراء الأخطاء النحوية القاتلة، وتدهسها الأقدام لتسوي بها الأرض.

لا أنكر أنها ليست مشكلة فئة بعينها، ولا أنكر أن ما نسمعه ونراه ونقرأه مجرد أنموذج لتلك الأمية اللغوية التي يموج بها مجتمعنا.. لا أنكر أنه أنموذج للهزيمة الحضارية التي نرعاها بحرص في مدارسنا وجامعاتنا.. لا، ولا أنكر أن هذا الأداء البائس هو أحد القرائن القوية التي تدين عقودا خلت من التصاغر واحتقار الذات، ومن ثم احتقار اللغة، لكني أربأ بمن هم في صدارة الإعلام والمجتمع أن يكونوا واجهة لهذا العوار اللغوي.

لقد رفض «جاك شيراك» (رئيس فرنسا الأسبق) رفضًا باتًا أن ينشئ مطعمًا لشركة «ماكدونالدز» في برج إيفيل، لأن هذا الأخير معلمٌ فرنسي ثقافي، ولأنه يعلم أنه مدخل لهدم الثقافة والهوية الفرنسية وإن في هيئة أكل أو شرب، أما في مجتمعاتنا العربية عمومًا، وفي مصر بصفة خاصة، فقد سوَّقنا للاغتراب اللغوي وتباهينا به، ونسينا أو تناسينا أن انحطاط اللغة ما هو إلا مظهر من مظاهر الانحطاط الثقافي.. نسينا أو تناسينا أن اعوجاج اللسان علامة على اعوجاج الحال.

اقرأ أيضاً:

تناقص اللغة تناقص في الإنسانية

اللغة العربية

 هل للغة علاقة بصناعة الفكر؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية