“في كل أسبوع يوم جمعة”.. رواية عن أوهام العالم الافتراضي
لم يعن الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد في روايته “في كل أسبوع يوم جمعة” سحر البيان وشاعريته، ولم يتوقف إلا قليلًا أمام القاعدة التي تزعم أن “الأدب تشكيل جمالي للغة”.
لكنه انحاز بكل كيانه إلى رسم لوحة قاتمة لواقع يزداد قبحًا وبؤسًا، وكان من المبكرين في رصد تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على حياتنا.
موضوع رواية في كل أسبوع يوم جمعة
جذبت عبد المجيد فكرة تقديم شهادة جارحة عن الحياة الاجتماعية المصرية في الأعوام الأخيرة، لم ينفع في تبديد قتامتها أو اندمال جرحها أي هروب لشخصيات الرواية إلى ثلاثة عوالم افتراضية.
تتهادى لنا في ما تتيحه الشبكة العنكبوتية من تواصل من بعد، وما يهبه لنا براح الأحلام من تخلص –ولو مؤقتًا– من ضيق الواقع وكوابيسه التي لا تنتهي، وما يمكن أيضًا أن نجده في صنف بريء من البشر، يعيش على سجيته، غير عابئ بلعبة تغير الأزمنة والأمكنة.
لغة الرواية
مع هذا لم تخل الرواية، التي صدرت حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، من جمال لغوي في بعض مواضعها، انسجم مع ثقافة المتكلمين أو المتحاورين، وتماهى في حزن شفيف يهز شغاف الروح.
قدمت هذه المواضع دليلًا دامغًا على أن المؤلف لا يعجز عن صوغ العبارات الفياضة الجميلة –وهو ما يتوافر بوضوح في أعمال أخرى له–.
لكنه أراد لأبطاله أن يتحدثوا من دون تكلف، لا سيما أن حديثهم كان يتم عبر موقع إلكتروني تفاعلي، وصفته التي أنشأته بأنه: “موقع مفتوح، فكرته الصراحة.. اختبار قدرتنا على البوح”.
طريقة سرد الرواية
بعيدًا من معطيات اللغة وطرائق سبكها، فإن المؤلف تمكن باقتدار من إنشاء معمار متين لروايته الطويلة نسبيًا، لم يتراخ في أي موضع، مع أنه استخدم أكثر من طريقة في البناء، تمثلت في الخط المستقيم والدوائر الناقصة والتطور الحلزوني والاستعادة أو الفلاش باك، علاوة على التوالد الحكائي الذي فرض نفسه باستمرار.
استطاع المؤلف أن يمسك حكايته بيد صارمة فلم يته منه خيط السرد أبدًا، على رغم التفاعل الإلكتروني المستمر بين تسع عشرة شخصية، تجسد أبطال الرواية، تختلف في المشارب والمآرب، وفي الخلفيات الاجتماعية والثقافية، وفي توقعهم للمصائر التي تنتظرها.
ظلت الحكاية في منشئها ومسارها ومآلها مشوقة جذابة، تتملك عقل من يقرؤها وخياله منذ البداية المحددة حتى النهاية المفتوحة.
لم تنل من هذا التشويق أية منعرجات كان يدخل الراوي العليم إليها أحيانًا، فيغرق في التفاصيل، مثل تصوير رحلة لا تتجاوز ثلاثة كيلومترات في صفحات عديدة، وعرض معلومات عن أمور وقضايا شتى.
لم تنل منه أيضًا أية وقفات قاطعة بينما كان يمكن للسرد أن يطول، فالإسهاب لم يكن مملًا، والإيجاز لم يكن مخلًا، بل بدا كلاهما في كثير من المواضع مبررين تمامًا.
مكان وزمان الرواية
لكن ما يصعب تبريره هو جنوح المؤلف، أو لنقل شخصيات من الرواية، إلى تكريس بعض الصور النمطية عن مصر كوطن.
يجسد قلب القاهرة، المكان المركزي للرواية، الذي لم يلبث أن يمتد استكمالًا وإسنادًا إلى الإسكندرية والساحل الشمالي، وعرضًا إلى الخليج والولايات المتحدة وإيطاليا والبحر الأحمر.
أما زمانها فهو أيامنا هذه، أو بمعنى أدق الأعوام الممتدة من الخامسة وحتى الثامنة بعد الألفية الثانية.
يستدل على الزمن من الإطار أو الخلفية الاجتماعية والسياسية التي تشكل ظهيرًا واضحًا لمسيرة السرد والحوار وتصاعدهما الدرامي.
نحن نجد وقائع الانتخابات البرلمانية التي جرت في مصر عام 2005، وحكايات معروفة عن التعذيب في أقسام الشرطة تداولها الإعلام بغزارة، وواقعة إسلام زوجة كاهن مسيحي أثارت جدلًا عارمًا في مصر وخارجها، وحادث اعتداء ضابط شرطة على قاض، وحريق منطقة “قلعة الكبش” العشوائية وسط القاهرة، وصعود جمال مبارك.
اقرأ أيضاً: الرواية والريف المصري الجديد
اقرأ أيضاً: كيف نصنع بالتفكير واقعاً مغايراً داخل المجتمع
اقرأ أيضاً: القتل ما بين الجرم واللذة
أحداث الرواية
تبدأ أحداث الرواية بتدشين سيدة اسمها الحقيقي نورا، واسمها الافتراضي على الإنترنت روضة رياض، لموقع مفتوح أمام المصريين الراغبين في البوح بأسرارهم.
ينجذب إليه فتيان وفتيات، ورجال ونساء، يحكي كل منهم ما يسقط عن نفسه عبء الكتمان ووجعه، فيرسمون جميعًا صورة المجتمع المصري في هذه اللحظة التاريخية، لنرى كل شيء عاريًا؛ الفساد السياسي، واستغلال النفوذ، والتزوير، والانتهازية، والدعارة، والمخدارت، والتزمت الديني، والتدين الشكلي، والاحتقان الطائفي.
لكن بعضهم لم يكتف بالتواصل عن بُعد، إنما مد جسور لقاءات حقيقية، وصلت إلى حد أن تزوج شاب وفتاة، ووجد رجل أطلق على نفسه اسم “لا شيء” من يحاول –من دون جدوى– أن يساعده في الوصول إلى ابنيه اللذين هاجرا إلى إيطاليا وانقطعت أخبارهما، ويجد أستاذ جامعي (إبراهيم) من يعتقد أن بوسعها أن تطلق رغباته الجنسية المكبوتة.
العوالم الافتراضية في الرواية
لم يكن هذا فقط هو العالم الافتراضي الوحيد في الرواية، وإن كان الأكبر والأعرض، بل إنها نحتت عالمين آخرين.
عالم ذوي الاحتياجات الخاصة
الثاني هو عالم ذوي الاحتياجات الخاصة الذي يعبر عنه أحد أبطال الرواية: “لا يقعون في خدعة الوقت التي يقع فيها الأسوياء، هم أقربنا إلى الحقيقة”، ويتمثل هذا العالم في ثلاثة من “المنغول” أو من يطلق عليهم “أصحاب متلازمة داون”.
الأول ثري يرتاد البارات وتقتله طامعة، والثاني فقير عشق زوجة أخيه وتعلقت به من دون خطيئة، لكن زوجها المشغول عنها وحماتها القاسية تسببا في هروبه من البيت وراحت هي تبحث عنه ملهوفة في الزحام.
أما الثالث فهو زوج السيدة الفقيرة الجميلة التي أسست المدونة، والتي كانت تخونه وهو يغط سادرًا في نومه، ثم علمته كيف يشاركها قتل الرجال الذين تصطادهم عبر مدونتها.
عالم البكم والعمي والصمّ
هناك أيضًا البكم والعمي والصمّ، الذين يحكي إبراهيم حكاياته معهم، ويثني على عوالمهم البسيطة، ويشاطره الرأي مختار كحيل، الذي يميل إلى العدمية.
عالم أحلام اليقظة
أما العالم الافتراضي الثالث فهو أحلام اليقظة، الذي تسرد معالمه ابنة عامل شيوعي وزوجة موظف شيوعي أيضًا.
كان الأب يضع أمام أولاده طبق الفول ويقول لهم: “تخيلوا أنه لحمة”، وكان يعلمهم أن يتعمقوا في أحلامهم كلما ازدادت حياتهم صعوبة: “تغيرت الحياة حولنا وازدادت الأسعار ومظاهر الفشخرة فدخلنا في الأحلام بقوة. علمنا أبناءنا أن يكونوا كذلك”.
لكن هذه العوالم الافتراضية الثلاثة لم تفلح في تجميل الواقع القبيح، أو تلطيف غلوائه، أو تخفيف وطأته، أو تقليل مخاوفها المتعددة الأسباب.
بل على النقيض من ذلك، يتمكن الواقع من نهش المثال، وتقتل الحقائق الأحلام، ويُفسد الأسوياءَ كلُ من يصادفهم أو يعايشهم من أصحاب العاهات، ليسقط الجميع في الغواية والبؤس.
نهاية رواية في كل أسبوع يوم جمعة
الموقع الإلكتروني يتحول من ساحة للبوح إلى مصيدة للقتل، والأبرياء لا تنفعهم براءتهم في رد عالم يتوحش بلا هوادة.
الأحلام لم يعد بمقدورها أن تقوي عزائم الحالمين في صد التشيؤ والتحلل والخواء، بعد أن تتحول هي نفسها إلى وسيلة رخيصة للغش والتدليس والخداع.
لكل هذه الأسباب الوجيهة ينسحب بعض أعضاء المدونة ويختفي بعضهم من الحياة، قتلًا وشنقًا.
يسقط آخرون في الرذيلة والجريمة، ليفسد كل شيء، ويتحول إلى ملهاة، يجسدها اندماج الجميع عبر غرف الدردشة أو (الشات) في ترديد النكات، والإغراق في الضحك، قبل سطور من وصول الرواية إلى نهاية مفتوحة على الغربة والضياع، وسقوط اليقين، وغياب أي إطار أو مرجعية لكل أبطالها تقريبًا.
وهي حالة تكررت كثيرًا في كثير من أعمال إبراهيم عبد المجيد السابقة على تلك الرواية، وبعض اللاحق عليها.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
**********
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا