في سبع سنين (الجزء الأول)، الإلحاد في ميزان العقل
الإلحاد والتطرف الفكري … “في سبع سنين”:
صدر مؤخرا الفيلم الوثائقي “في سبع سنين” والذي ألقى الضوء على تغيرين فكريين خطيرين ضربا المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، وهما الإلحاد من جانب والتطرف الفكري من جانب آخر، وسنتناول هنا الجانب الأول وهو الإلحاد .
الإلحاد :
وتختلف الإحصاءات حول نسب الملحدين وأعدادهم في العالم، وتدور أغلبها حول نسبة 10% من سكان العالم أغلبهم في آسيا. وفي العالم العربي تختلف الإحصائيات أيضًا، فبعضها يُظهر أن به أقل نسب في العالم حيث به 0,2% فقط من ملحدي العالم، بينما تذهب إحصائيات أخرى إلى أن بعض الدول العربية يتراوح عدد الملحدين فيها ما بين 3,5 و5% من عدد السكان.
وللإلحاد أسباب منها الفكري ومنها النفسي، فامتلاك البعض تصورا فكريا خاطئا عن الإله أو فعله قد يؤدي للإلحاد، وامتلاكه منهجا غير سليم في التفكير والمعرفة قد يؤدي أيضا للإلحاد.
أما الأسباب النفسية فهي أن يكون لدى الإنسان تصورا سليما عن الإله لكن بسبب بعض الظروف التي يمر بها والتي تخالف ما يحب وما يريد تصيبه حالة من السخط أو الكراهية أو النفور من الإله مما ينتهي به إلى الإلحاد أيضًا. وقد تجتمع الأسباب الفكرية والنفسية معًا.
وفي الفيلم المذكور برزت بعض الأمثلة لهذه الأسباب، كالمنهج الخاطئ في التفكير مثل من بنى اقتناعه بوجود الإله على التقليد وهو منهج خاطئ، وكالصدمات النفسية العنيفة كتجربة زواج وانفصال مريرة أو كالأحداث السياسية التي زلزلت كيان البعض.
فما رأي العقل في مسألة الإلحاد ووجود الإله؟
إن العقل يحكم بضرورة وجود سبب أول للكون، بل إن أغلب الاتجاهات الإلحادية لا تستطيع أن تنكر ذلك، بل هي فقط ترى أن هذا السبب هو المادة أو الصدفة أو الانفجار الكبير فقط وهكذا. فوجود سبب أول أو علة أولى هو أمر شبه محسوم، وأغلب الاختلاف يكون في صفات هذا السبب. ولنستعرض هنا بعض البراهين على وجود العلة الأولى وبعض صفاتها.
برهان النظام:
البرهان الأول والأبسط والأكثر شيوعا والأشهر عن وجود الإله وبعض صفاته الهامة هو برهان النظام، وهذا البرهان له شعبية كبيرة في الفلسفات والأديان الإلهية، وهو مناسب لفهم كثير من الناس دون الدخول في تفاصيل فلسفية معقدة.
ويقول البرهان: الكون به نظام، وكل نظام لا بد له من منظم؛ إذن الكون له منظم.
كما يستخدم هذا البرهان لإثبات بعض الصفات للعلة الأولى، كالعلم والإرادة والقدرة والحياة والوحدانية.
المقدمة الأولى:
والمقدمة الأولى في البرهان والخاصة بأن الكون منظم يمكن إدراكها على مستويات كثيرة، فالإنسان البسيط يلاحظ النظام في حركة الشمس والقمر والفصول، وفي دورة حياة النباتات والمزروعات والمحاصيل، وغيرها من الأنظمة التي يدركها في حياته العادية.
ويمكن إدراك النظام على مستوى أعلى باستخدام التجارب العلمية التي تمدنا باكتشافات لا تنتهي، فالإنسان المطلع على نتائج هذه التجارب وعلى العلوم الطبيعية والتجريبية يدرك أوجهًا أكثر وأعمق في نظام الكون.
فعلم الأحياء قائم بالكامل على محاولة اكتشاف تفاصيل النظام المذهل في الكائنات الحية، كعمليات البناء الضوئي، والنمو والتكاثر، والنظام المذهل في نشأة الأجنة، وعالم الشفرة الوراثية المعقد والمنظم جدا.
وعلم الكيمياء يحاول فك شفرات النظام الموجود في تركيب وتفاعل المواد الكيميائية، والفيزياء تحاول سبر غور النظام الحاكم لحركة الأجسام في عالمنا المادي، وهكذا. وبهذه الطريقة كلما زاد علم الإنسان بالطبيعة من حوله كلما زاد إدراكه للنظام وعظمته وجماله وكماله.
استخدام التأمل العقلي الفلسفي
ويمكن إدراك النظام على مستويات أعمق باستخدام التأمل العقلي الفلسفي، فهناك نظام يحكم الموجودات كلها سواء مادية أو غير مادية، يستدل عليه العقل بسهولة، كما يمكن للعقل أن يتعمق في فهمه فيكتسب فهما عقليا فلسفيا للوجود ككل.
فمثلا يلاحظ العقل بسهولة أن “لكل حادث سبب” و”لكل معلول علة”، فحدوث تغير يستلزم سببا ضرورة وإلا بقي الوضع كما هو عليه، والمعلول –أي الشيء الذي يتوقف وجوده على شيء آخر- يتوقف وجوده بالضرورة على هذا الشيء الآخر.
كما يلاحظ العقل “استحالة اجتماع النقيضين” فالشيء يستحيل أن يكون موجودًا وغير موجود معًا في مكان واحد وزمان واحد ومن جهة واحدة، وهكذا. فهذه القواعد كلها تدل على وجود نظام يحكم الموجودات كلها بشكل عام.
ولنلاحظ أن المقدمة الأولى تقول إن هناك نظام في الكون، وليس أن كل الكون منظم، فلو فرضنا جدلًا أن بعض الكون غير منظم تظل هذه المقدمة صحيحة، ولكن عند البحث والتدقيق نجد أن كل جنبات الكون محكومة بالنظام، فالبحث العلمي يثبت يوما بعد يوم أن كل ما نلاحظه من ظواهر في العالم لها قوانين ثابتة ومنظمة،
فحتى ما كنا نظنها أحداثا عشوائية كالزلازل والبراكين اتضح لنا أن هناك قوانين ونظام معين يحكمها بحيث أصبح بإمكاننا أن نتنبأ بوقوعها وشدتها. والنظام العقلي أو الفلسفي يعم الموجودات بشكل عام ومطلق، فكل موجود يستحيل أن يجتمع مع نقيضه، وكل موجود معلول له علة، وهكذا، فالكون كله منظم بهذا النظام.
المقدمة الثانية:
والمقدمة الثانية تقول إن النظام لا بد له من منظم، وهذا أيضًا يمكن إدراكه بسهولة وله مستويات في إدراكه أيضًا، فالإنسان البسيط يعلم أن الأشياء المادية لا تنظم نفسها بنفسها، فلو رميت بعض الكراسي بشكل عشوائي وتركتها سنين طويلة لن تنتظم أبدا إلا لو جاء شخص عاقل وقادر يريد تنظيمها وقام بتنظيمها، وبهذه الطريقة نجد أن البرهان يثبت هذه الصفات للمنظم، والشخص العالم القادر هو ما نسميه بالحي.
وعلى المستوى الأعلى وهو المستوى التجريبي فإن خصائص المادة التي اختبرناها تدل على ذلك أيضًا، فليس من صفات الجمادات أن تنتظم بنفسها، وإن أجرينا تجربة الكراسي في أوساط مختلفة وظروف مختلفة فسنحصد نفس النتيجة.
على المستوى العقلي والفلسفي
فإن النظام عند تعريفه الدقيق نجد أنه هو “كون الكثرة واحدًا”، فعندما نقول إن الكراسي مرتبة فهذا يعني أنها موضوعة في مكان واحد في شكل واحد أو موجهة كلها في اتجاه واحد، وعندما نقول إن المكتبة منظمة فهذا يعني أنها أصبحت وحدة واحدة تحقق غاية واحدة وهي سهولة الوصول لكتاب ما، وعندما نقول على عرض عسكري أنه منظم فلأن جميع الجنود يتحركون حركة واحدة في زمان واحد، وهكذا.
والكثرة ليس من ذاتياتها وطبيعتها أن تكون واحدًا، فهي كثرة! فإن أصبحت واحدًا كما رأينا فهذا يحتاج لسبب بالضرورة، فلا بد للنظام من منظم.
والمادة من صفاتها الكثرة والتكثر، فالأشياء المادية مركبة من أجزاء كثيرة كثيرة، وكل جزء منها مركب من أجزاء، وهكذا إلى ما لا نهاية، وبالتالي فيستحيل أن تكون الوحدة مصدرها ماديا.
والموجودات غير المادية هي الموجودات المدركة كالعقول والنفوس، وهي موجودات تتصف بالعلم والإرادة والقدرة والحياة، بل هي مصدر الحياة التي تدب في الأجسام المادية.
وهذه الموجودات هي التي يمكن أن تتصف بالوحدة ويمكن أن تصدر عنها الوحدة، فهي مثلا تدرك فكرة واحدة فتنظم الأجسام المادية كي تحقق هذه الفكرة، وتهدف لغاية واحدة فترتب الأجسام المادية لأجل تحقيق هذه الغاية.
وصدور النظام -أو وحدة أشياء كثيرة- يحتاج لفكرة واحدة ولغاية واحدة، ولفاعل مدرك لهذه الفكرة ومريد لهذه الغاية، وفي النهاية قادر على تحقيق ذلك في الواقع مما أدى لصدور النظام عنه بالفعل، وهذا المنظم العالم المريد القادر الفاعل حي، بل هذه هي الحياة أصلا، أن تعلم وتريد وتقدر وتفعل!
النتيجة:
وبالتالي تصبح نتيجة البرهان حتمية وواضحة ومثبتة على كل المستويات البسيطة او المعقدة، فلا بد للكون من منظم عالم مريد قادر حي وفاعل.
وفي الحقيقة فإن برهان النظام يثبت وحدانية المنظم أيضًا، لكن يمكن تناول هذا في مقال لاحق بمشيئة الله تعالى.
هذا عن برهان النظام، وهناك براهين أخرى قد نتناولها في مقالات أخرى أيضًا.
أقرأ أيضاً:
بعد نجاح عملية زراعة الرأس، هل يمكننا إعادة الحياة للجسد ؟
أين أجد إجابات للأسئلة المصيرية ؟ وكيف يتم التوافق ؟