مقالات

سلسلة شرح الفلسفة السياسية ( الجزء الرابع ) : الحكمة تدير أجزاء المجتمع

ما هي صفة المجتمع الفاضل؟

قلنا إن النظام الفاضل هو الذي يكون الحكم فيه للعقل و  الحكمة تدير أجزاء المجتمع ، ويسعى للسعادة الإنسانية الحقيقية للجميع، والتي هي السعادة العقلية والروحية، التي تكون بمعرفة الحق وعمل الخير، والوصول لها يكون بعد تحقيق حد الكفاية -دون إسراف أو تقصير- من اللذات الشهوية والغضبية لحفظ الجسد وصحته.

وقلنا إن الرؤساء والنخب في هذا النظام هم الأعقل والأعلم والأكثر حكمة، والأكثر فضيلة وأخلاق أي عدالة وعفة وشجاعة، والأعلم بظروف الزمان والمكان وبأحوال هذا المجتمع وظروفه، والرئيس فيهم من اجتمعت فيه هذه الصفات، فإن لم تجتمع في واحد بل في قلة فهم جميعا يحكمون، ويرأس مجلسهم الأعقل والأعلم والأحكم والأعدل.

ويكون ذلك كله بقبول المجتمع وموافقته واختياره، بل وبمشاركة كل أفراده أو أكثرهم، عن طريق قيام كل فرد منهم بدور معين مخصوص ومناسب له ولاستعداداته وبإرادته، يهدف لسعادته وسعادة الآخرين، وأيضا يقوم الشعب عن طريق ممثليه -الذين يشترط فيهم العلم والحكمة والفضيلة والعدالة أيضا- بمراقبة الحكام.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

القوى الشهوية والاقتصاد

وعندما يتحقق ذلك أي يحكم العقل؛ يتم وضع كل أمر وشخص وشيء في موضعه المناسب له، فينال كل ذي حق حقه، من رجل أو امرأة، شاب أو شيخ، صغير أو كبير، بل حتى الحيوان والنبات والجماد؛ فيتحقق العدل بمعناه الواسع.

وتكون القوى الشهوية في هذا المجتمع  تحت سيطرة العقل وحكمه، فيتم تلبية الشهوات الضرورية لبقاء الإنسان والمجتمع -كالأكل والشرب والمسكن والملبس والنكاح- بالحد الكافي لها دون إفراط أو تضييق، ففي كليهما هلاك للإنسان، وتكون هذه هي غاية “الاقتصاد” في هذا المجتمع، والتي هي في النهاية تهدف لغاية المجتمع والنظام نفسه؛ وهي السعادة الحقيقية للجميع.

ولكي يكون الاقتصاد محققا لغاية هذا المجتمع وسعادته؛ يجب أن يكون مستقلا عن غيره من النظم الاقتصادية التي لا تهدف لنفس الغاية، أو التي لا تهمها مصلحة هذا المجتمع. كما يجب أن يسعى  للعدل وهو غاية المجتمع نفسه كما سبق، فيسعى للعدالة الاجتماعية والعدالة في توزيع الثروات.

كما يجب أن يكون الاقتصاد تحت إدارة الرؤساء من أهل الحكمة والفضيلة سابقي الذكر، وليس تحت سيطرة أهل المال فقط، حيث قد ينحرفون تحقيقا لمصالحهم.

القوى الغضبية والدفاع

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وبالمثل في القوى الغضبية، حيث تهدف لدفع الأضرار عن المجتمع وأفراده، فتكون وظيفة “الجيش وأجهزة الأمن” في هذا المجتمع هو ذاك لا غير، وأيضا تحتاج للاستقلال من التبعية، ولحكم وإدارة الرؤساء من أهل الحكمة والعدالة، حتى تحقق غاية المجتمع النهائية ولا تنحرف عن مسارها.

وهذه الأجهزة والمؤسسات يجب أن تتحلى بعقيدة سليمة تتماشى مع غاية المجتمع، واحترام للإنسان وسعادته، ويتم تربية أفرادها على الشجاعة والتضحية، وأفرادها من ذوي الاستعدادات المناسبة لمهامهم، وهم راغبون في هذه المهام الشريفة، وبالمثل في كل وظائف المجتمع.

التعليم والعلوم

وهذا النظام في حقيقته نظام تعليمي وتربوي، فكل ما يقوم به هو تعليم الحق والتربية على الخير بطرق مختلفة، كما يقوم بما يخدم ويساعد على ذلك. وبالتالي فالمؤسسات التعليمية والتربوية هي الأهم في هذا المجتمع، سواء التي تقوم بذلك بشكل مباشر كالمدارس والجامعات والمعاهد ومؤسسات البحث العلمي ودور العبادة، أو بشكل غير مباشر كالأدب والثقافة والفن والإعلام ووسائل التواصل، وإدارة هذه المؤسسات تكون بيد الأعلم والأعدل مع كونه صاحب كفاءة وعلم ودراية في هذه المجالات، وتخضع في النهاية أيضا لإدارة الرؤساء من أهل الحكمة والعدالة. وكيفية “التعليم والتربية” في هذه المجتمعات )تم الحديث عنها في المقال السابق(.

والعلوم الأكثر أهمية في هذه المجتمعات هي “العلوم العقلية”، ابتداء من علوم الحكمة المنطقية التي تعلم الإنسان كيف يفكر، وكيف يبحث بشكل علمي ومنطقي، ويميز بين الصواب والخطأ، ويصل للحقيقة. تليها علوم الحكمة النظرية التي تدرس العالم والوجود من حولنا، سواء عالم الأعداد والأشكال في الرياضيات، أو عالم المادة والطبيعة في الطبيعيات، وأخيرا تدرس العالم المعنوي والوجود بأكمله، فتناقش الأسئلة الكبرى عن الكون والحياة ومبدأهما والغاية منهما، تليها علوم الحكمة العملية من أخلاق وإدارة المنزل والسياسة الفاضلة.

ويتم تعليم هذه العلوم للجميع كل حسب استطاعته وطاقته وطريقة استيعابه، لينتج من ذلك العالم المتبحر، الذي يدرس هذه العلوم باستخدام البراهين المركبة والمتينة، والمرشح للمشاركة في قيادة المجتمع إن توفرت فيه باقي الشروط. والعامي الذي يعرف ما يكفي لنجاته باستدلالات بسيطة لكن سليمة، والمتوسط الذي يدرسها بشكل جدلي، ومهيأ للدفاع الفكري عن المجتمع. وكل ينال حقه من الاهتمام، حسب رغباته واستعداداته ودوره في المجتمع. كما يتم بث هذه العلوم وما تقدمه من مبادئ وقيم للمجتمع عبر الأدب والفن والخطابة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

استخدام الحكمة في التربية

أما الجانب التربوي فقد سبق الإشارة له في المقال السابق، كما يتم أيضا الحث على الاعتدال والزهد في الشهوات، والتحكم في الغضب والتحلي بالحلم والشجاعة، ومصاحبة أهل الحكمة والفضيلة، والتحكم في الحواس والخيال والوهم وغضهم عما يفسد الإنسان، ومداومة التفكر والتذكر، والرياضة البدنية والروحية، ويعين على ذلك الأدب والفن والخطابة والإعلام أيضا.

وهدف التربية والتعليم في هذا المجتمع هما هدف المجتمع نفسه أيضا؛ أي تحقيق العدل والسعادة للجميع.

الصناعات والحِرف

كما يهتم هذا المجتمع بتعليم “الصناعات”، أي الطب والهندسة والحدادة والنجارة والتجارة والفلاحة والحياكة وغير ذلك، فهذه الصناعات يحتاجها المجتمع ضرورة، وغيابها يؤدي للحرج أو الاحتياج للغير الذي قد لا يكون متوافقا مع غاية هذا المجتمع وسعادته، فيجب تحقيق الكفاية في هذه الصناعات قدر الاستطاعة.

ولكل صناعة وصناع قيادات حكيمة عادلة خبيرة في الصناعة وتقوم على شؤونها ومقبولون من رعيتهم، وذلك أيضا تحت إدارة الرؤساء من أهل الحكمة والعدالة، كي تحقق الصناعة غايتها في المجتمع، والتي تتماشى مع الغاية الكلية للمجتمع وهي العدل والسعادة للجميع أيضا، ولا تنحرف عن مسارها لغايات أو أهداف أخرى كمصالح القلة، أو تواجه مواقف كقلة عدد الصناع والمتعلمين أو زيادتهم عن حاجة السوق.

رسالة المجتمع و الحكمة في التصدي للخطر

ورسالة هذا المجتمع  رسالة عالمية إنسانية، وهي الحق والخير والعدل والسعادة للجميع، ويسعى لنشرها بالطرق التعليمية والتربوية سابقة الذكر، وعبر “القنوات الدبلوماسية”. بل إن خير هذا المجتمع يتعدى نفعه فيصل للحيوانات والنباتات والجمادات! فيحفظهم ويرعى حقوقهم، فلا يفسد في “البيئة” ولا يدمر الأرض.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والأخطار التي تواجه هذا المجتمع سواء داخليا أو خارجيا يتم التعامل معها أولا بالطرق التعليمية والتربوية سابقة الذكر، فإن لم يرتدع مصدر الخطر فيتم التعامل معه بأسلوب الترغيب أي تحقيق مصالح مادية له في مقابل كف أذاه وخطره عن المجتمع بشرط كون هذه المصالح لا تتعارض مع كل ما سبق ذكره من خواص هذا النظام ومبادئه، فيمكن عقد الصفقات أو المعاهدات أو الاتفاقيات معه، فإن لم يكف أذاه عن المجتمع فيتم استخدام أسلوب الترهيب والقوة بما يحقق الردع وكف الأذى لا غير، دون ظلم أو تعدي.

هذه هي صفة المجتمع الفاضل، لكن كيف ينشأ هذا المجتمع؟ لهذا مقال آخر إن شاء الله.

اقرأ أيضاً .. الأخلاق وتأثيرها على الفرد والمجتمع

اقرأ أيضاً .. أسباب السعادة

اقرأ أيضاً .. الحقيقة في عصر الإعلام

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط

ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة