سلسلة شرح الفلسفة السياسية ( الجزء الأول ) : المقدمة
سلسلة شرح الفلسفة السياسية ( الجزء الأول ) : المقدمة
الفلسفة هي العلم الباحث في الموجودات بشكل عام، وهو إما يبحث فيما هو كائن دون اختيار الإنسان كالطبيعة والنفس الإنسانية وما وراء الطبيعة، أو يبحث فيما هو كائن باختيار الإنسان كالأخلاق وإدارة المنزل والسياسة، أو يبحث في كيفية البحث في هذه الأمور أي في كيفية المعرفة والتفكير.
السياسة والفلسفة السياسية: المقدمة
والسياسة بمعناها العام هي العلم الباحث فيما ينبغي أن يكون على مستوى المجتمع، وبالتالي فهو يتناول قضايا مثل كيفية الحكم ومنشأ التشريعات ومن يقوم بتنفيذها والحقوق والواجبات والحريات ومصدر الشرعية وغير ذلك. وهو إما أن يبحث في ذلك بشكل كلي عام أي في المبادئ التي تقوم عليها السياسة؛ وهذه هي الفلسفة السياسية، أو يتناول ذلك بشكل جزئي وتفصيلي وهذا خارج عن نطاق الفلسفة.
فالفلسفة السياسية نعني بها العلم الباحث فيما ينبغي أن يكون عليه المجتمع بشكل عام كلي مبدئي. وقبل الشروع في تناول بعض مسائلها يجب أن نشير لبعض المقدمات المهمة.
الرؤية الكونية وعلاقتها بالسلوك
المقدمة الأولى خاصة بكون السياسية –كما سبق- تقع مع الأخلاق وإدارة المنزل ضمن مجموعة من العلوم الباحثة فيما ينبغي أن يكون باختيار الإنسان، أي التي تبحث فيما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني، وهذه العلوم الثلاثة متداخلة بشدة، فلا توجد رؤية سياسية منفصلة عن رؤية للأخلاق والأسرة. فعلم الأخلاق يبحث فيما ينبغي أن يكون على مستوى الفرد، وعلم تدبير المنزل يبحث فيما ينبغي أن يكون على مستوى الأسرة، والسياسية فيما ينبغي أن يكون على مستوى المجتمع، ومن الواضح وجود تداخل بينهم، فالمجتمع هو مجموعة من الأسر والتي بدورها مجموعة من الأفراد، فلا يمكن الفصل بينهم بشكل تام.
المقدمة الثانية خاصة بأن الرؤية لما ينبغي أن يكون تعتمد بالضرورة على الرؤية لما هو كائن، فإذا كانت الرؤية لما هو كائن أن العالم مادي فقط ولا وجود للقيم أو للغيبيات فإن الرؤية لما ينبغي أن يكون ستتجه بالضرورة صوب تحقيق أكبر قدر ممكن من النفع المادي دون اعتبار لأي جانب قيمي أو غيبي، أما إن كانت رؤيتنا لما هو كائن تعترف بالقيم والغيبيات فستختلف رؤيتنا لما ينبغي أن يكون، وهكذا…
المقدمة الثالثة هي أن رؤيتنا لما هو كائن ولما ينبغي أن يكون تعتمدان كلاهما على طريقتنا في التفكير وفي اكتساب المعرفة، فالمعتمد على الحواس فقط في تكوين معارفه سينكر العالم الغيبي والمعنوي ولن يعترف إلا بالمادة، بينما المعتمد على التفكير العقلي سيثبت وجود القيم والماورائيات أي الغيبيات.
المقدمة الرابعة خاصة بأن المنهج العقلي البرهاني المعتمد على البديهيات العقلية هو المنهج الصحيح معرفيا، وقد سبق إثبات هذا في مواضع كثيرة فليُرجع إليها.
المقدمة الخامسة خاصة بأن الرؤية الصحيحة لما هو كائن تقر بوجود عالم مادي وعالم غير مادي أي ماورائي وغيبي، وتقر بأن الإنسان له جانب جسدي مادي وجانب آخر معنوي أي روحي وعقلي، وبوجود إله خالق للكون مطلق الوجود والكمال، وقد ثبت تناول هذا في مواضع أخرى وقامت عليه البراهين العقلية المتينة، فليرجع إليها أيضًا.
قوى الإنسان
المقدمة السادسة خاصة بقوى النفس الإنسانية المدركة، فللإنسان قوى مدركة مختلفة، مثل الحس الذي يدرك ظاهر الأجسام المحيطة بجسم الإنسان عند اتصالها بحواسه، والخيال الذي يتذكر الصور الحسية ويركب ما بينها، والوهم الذي يدرك المعاني الجزئية مثل حب فلان وكراهية علان، والعقل الذي يدرك المعاني العامة الكلية مثل معنى الإنسان كحيوان ناطق ومعنى العدل والحب بشكل عام وكلي.
المقدمة السابعة خاصة بقوى النفس المحركة، فالإنسان عندما يتحرك إما يطلب ما فيه نفع جسده كالأكل والشرب والنكاح؛ وما يحركه هنا هي القوة المسماة بالشهوة. أو يتحرك لدفع ضرر عنه مثل اعتداء شخص ما؛ وما يحركه هنا هي القوة المسماة بالغضب. أو يتحرك لمعرفة الحق وعمل الخير؛ ويحركه هنا عقله.
طلب الكمال
المقدمة الثامنة خاصة بأن الإنسان يطلب الكمال دائمًا، فكل حركة من حركاته يطلب منها كمال ما، أي نفع ما أو خير ما، فهو يطلب الطعام لأن فيه كمال جسده، ويدفع الأذى لأن في ذلك كمال جسده أيضًا، ويطلب الحق لأن فيه كمال عقله وهكذا. والحصول على الكمال ونيله يؤدي للذة وسعادة ما، فمن الواضح أن تناول الطعام يؤدي للذة وكذا دفع الضرر وأيضا معرفة الحق وعمل الخير.
المقدمة التاسعة خاصة بأن الكمالات العقلية هي الكمالات الحقيقية للإنسان، بينما الكمالات الجسدية الشهوية والغضبية فوظيفتها الرئيسية هي الحفاظ على الجسد من أجل خدمة العقل لأجل طلب الكمالات الحقيقية. فالعقل هو المميز للحق والباطل والنافع والضار والخير والشر وبالتالي هو الذي يعرف ما فيه كمال حقيقي للإنسان، أيضا العقل هو المميز للإنسان عن الحيوانات والكائنات في العالم المادي وبه يعلو عليها بالتالي كماله هو الكمال الحقيقي للإنسان، وهو أيضا الباقي حيث أن الجسد يفنى بينما تثبت البراهين بقاء النفس بعد ذلك، وبالتالي فكمالات العقل من معرفة الحق وعمل الخير هي الكمالات الحقيقية للإنسان.
أنواع اللذات
المقدمة العاشرة خاصة بأنواع اللذات التي قد يطلبها الإنسان أو ينالها، وهي طبقا لما سبق من قسمة قوى النفس المدركة لحس وخيال ووهم وعقل، والمحركة لشهوة وغضب وعقل؛ تكون:
لذات شهوية حسية مثل لذة الأكل والشرب والنكاح، ولذات شهوية خيالية ووهمية مثل المال وبعض الفنون.
ولذات غضبية حسية مثل الغلبة الجسدية كالفتك، ولذات غضبية خيالية ووهمية مثل الغلبة المعنوية التي تكون بالمنصب أو نيل كرامة ما.
ولذات عقلية وهي معرفة الحق وعمل الخير.
والعقلية أرقاهم على الإطلاق، يليها الخيالية والوهمية، يليها الحسية.
الإنسان إجتماعي بطبعه
المقدمة الحادية عشرة خاصة بأن الإنسان اجتماعي بطبعه، فالإنسان طالب للكمال بطبيعته كما سبق، وهذا الكمال لا يستطيع الإنسان أن يناله وحده، فالكمالات الحسية كالأكل والشرب يحتاج فيها لمن يزرع ويحصد وينقل ويحفظ له هذه المأكولات، ومن يصطاد ويطهو ويسوق، ومن يحفر الآبار ويتأكد من نقاء المياه، كما يحتاج لمن يحيك له الملابس، ولمن يحفظ صحته، ولمن يصنع دواءه، ولمن يبني مسكنه، ومن يصد الخطر عنه، ومثل ذلك كثير. وفي الكمالات العقلية يحتاج لمن يعلمه ويربيه. ولو ترك وحده منذ صغره لهلك رضيعا. فهو اجتماعي بالضرورة، يحتاج للاجتماع ويدخله من أجل الحصول على كمالاته، ولتحقيق لذّات معينة والوصول لسعادة ما.
المقدمة الثانية عشر خاصة بأن الاجتماع يؤدي بالضرورة للتزاحم، فهذا يريد شيئا والآخر يريد نفس الشيء، فلا بد من قانون يحدد من يحصل على ماذا وإلا تحول الاجتماع لغابة حيوانية، ولضاعت الحقوق، واختلطت الواجبات. والقانون يحتاج لمشرّع يضعه وإلا لم يوجد، ولمنفذ يطبقه وإلا كأن لم يوجد.
ومن هنا تنشأ الحاجة للمجتمعات ثم لمشرعين ثم لقوانين ثم لمنفذين، فينشأ النظام السياسي بأكمله، وينشأ علم السياسة يصف ويحلل ويهدف للوصول للشكل الأمثل لإدارة المجتمع.
لكن ما هي الأنظمة والدساتير المختلفة التي قد تنشأ في المجتمعات؟ وما خصائص كل منها؟ وكيف نصل للأفضل فيها؟
تابعوا بقية هذه السلسلة.
اقرأ أيضاً .. الأخلاق وتأثيرها على الفرد والمجتمع
اقرأ أيضاً .. كيف تكون باراً بمجتمعك ؟
اقرأ أيضاً .. ثنائية الفرد ام المجتمع
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.