«حين تمتطي الشهوة ظهر العقل»
ليست مجرد قصة قديمة مجهولة المصدر، بل هي قصة لتاريخ العلاقة الجدلية بين الشهوة والعقل، بين دونية الجسد وملائكية العقل، هي قصة الإرادة المكبلة بالحث الحيواني، والقيم المنحنية لعهر الواقع، هي قصة بلادي التي تمتطي فيها شهوة السلطة والمال والنساء حكمة ومبادئ وقيم العقل.إنها قصة «فيليس» Phyllis و«أرسطو» Aristotle التي ذاعت في القرون الوسطى مجسدة حجم سطوة المرأة إن أرادت، وكيف يمكن أن ينصاع العقل لأوامر الشهوة قانعا بالتخلي عن هويته، راضيا بهدم ما أقامه من صروح فكرية إبداعية عبر تاريخه.
وهل يمكن لإبداع العقل الذكوري أن يضاهي إبداع الجسد الأنثوي؟ وهل تاريخنا هو تاريخ للجنسانية أم تاريخ للعقل؟ هل هو تاريخ للتفكيك البنائي أم تاريخ للبناء التفكيكي؟
أرسطو والإسكندر الأكبر
كانت «فيليس» هي المحظية الأقرب للإسكندر الأكبر، وربما كانت زوجته (وكم من نساء يحكمن بالإغراء). وكان «أرسطو» (المعلم الأعظم في تاريخ الفلسفة) أستاذا وموجها لزوجها، وتلك على الأرجح حقيقة تاريخية.
تروي القصة أن إشاعة سرت في المدينة بأن «فيليس» قد منعت زوجها من جلسات الشرب ليلا، بل ومنعته كذلك من رفقة «هيفاستيون» Hephaestion أقرب أصدقائه إليه، وكذا من ممارسة تدريباته اليومية على حصانه الأسطوري «بوسيفالوس» Bucephalus، مستغلة في ذلك ملكاتها الجسدية في إغرائه للبقاء بجوارها ليلا.
لاحظ «أرسطو» ذلك، الأمر الذي يهدد بفشل مشروعه الكبير لإعداد رجل قوي يقود الإمبراطورية اليونانية متحليا بالفلسفة! وذات لحظة فارقة، أصدر «أرسطو» تعليماته لتلميذه بالامتناع عن علاقاته العاطفية الهادمة مع زوجته، والتحلي بالقدرة على رفض أوامرها المدمرة، وهو ما رفضته «فيليس» تماما، وقررت الانتقام بطريقتها الخاصة (طريقة كل النساء، وكل حكومات العالم)، لقد قررت الانتقام بإغواء هذا الفيلسوف العظيم، موقنة أنه لن يتحمل عطاءات جسدها!
فيليس تنتقم بطريقتها الخاصة
بدأت «فيليس» في إظهار مفاتنها عمدا أمام «أرسطو» كلما التقى زوجها، وتعددت اللقاءات حتى استغرقته شهوة ممارسة الحب معها. وحين تأتي الشهوة يتوارى العقل ثملا ويلهو مرحا في براثن الغفلة! وهكذا تحين لحظة الحديث معها عن قرب، فإذا بها امرأة صارخة الجمال، صارمة المظهر، شديد الدهاء.
تحدث إليها كفيلسوف يمسك بزمام العقل، وتحدثت إليه كامرأة توقن أن مفاتيح العالم ملقاة تحت أقدامها. كان «أرسطو» يحترق شوقا كلما رأى جزءا من مفاتنها، ويحترق عقلا كلما تذكر تعاليمه الأخلاقية ووسطيته الحياتية، يحدث عقله، يعنفه: أأنت الذي تحول بيني وبين متعة هي قاب قوسين أو أدنى مني؟ إذن فلتذهب أيها العقل إلى الجحيم.
سيدتي: أريدك! لكن «فيليس» أصرت على أن تمضي معه إلى النهاية، على أن تبرهن لنفسها ولتلاميذه على أنها الأقوى، الأقوى من أية فلسفة، الأقوى من أية هرطقات يتغنى بها كبير الفلاسفة. أجابته في تحد وثقة: أتريدني؟ إذن فلتأت إلى حجرتي زاحفا على يديك وقدميك، ولتحملني كما يحمل الحصان قائده منصاعا، ولتتجول بي في حديقة القصر.
فيليس ولذة الانتصار
لقد استلبت إرادته تماما وألجمته بالشهوة، فخرَّ كما أمرته لتمتطيه عن طيب خاطر منه. وكان المشهد المؤلم الذي صوره الفنان الألماني «هانز بالدونج» Hans Baldung (1484– 1545) في لوحة مشهورة له سنة 1513: الفيلسوف ذو اللحية البيضاء يزحف على أربع في حديقة مسورة، و«فيليس» تجلس في كبرياء على ظهره ممسكة باللجام في يدها اليسرى، وفي يدها اليمنى يتأرجح السوط ملهبا ظهره، وخدم القصر يشاهدون وتتعالى ضحكاتهم.
«فيليس» تشعر بلذة الانتصار؛ لذة امتطاء ظهر الحكمة، بينما الحكمة تكابد لذة الخضوع تحت أقدامها. وبين لذة الامتطاء ولذة الخضوع تتجلى المفارقة، ها هو سوط الجمال يتأرجح على ظهر الحكمة، وها هي منحنيات الجسد تمارس تفوقها على استقامة العقل، ها هي طاقة الأنثى الكامنة ترفع راية الانتصار، وتجني ثمار ذكاء الجسد العاري!
مبدأ الوسطية
ربما كان هدف القصة –بعيدا عن الحوار الجدلي التاريخي بين الذكورة والأنوثة – هو إلقاء الضوء على مبدأ الوسطية الذي افتقدناه بشدة؛ فالشهوة يجب أن تُفهم على أنها حق طبيعي للبشر، ومن شان الحكيم وغير الحكيم إشباعها. لكن الإشباع بدوره يجب أن يتحقق وفق مبدأ الوسطية، لا الإفراط ولا التفريط؛ الضعف أمام الشهوة المبتذلة هو خرق عقلي لما خلق من أجله البشر.
مبدأ الوسطية هو الذي يفصل بدقة بين الحق الطبيعي وبين العهر، العهر الذي يستولي على أصحاب العقول الضعيفة، ليس فقط في حياتنا العادية بل في شتى المجالات: السياسة، الدين، الفن، العلم، الحياة.
***
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.