فن وأدب - مقالاتمقالات

فيلم جميل اسمه لوك

دعوني أحدثكم عن فيلم إنتاج مشترك إنجليزي أمريكي اسمه لوك (Locke)، وجدته مصادفة وأنا أبحث عن فيلم جيد للمشاهدة في أحد تطبيقات الأفلام المدفوعة الاشتراك، وأعجبني بسبب جرأة الفكرة السنيمائية.

هذا الفيلم يبلور ملامح الرجولة والشجاعة والنبل الإنساني، في خضم كثير من الأفلام التي تعتمد على إبهار الصورة والأكشن والإغراء وما إلى ذلك، ثم لا تخرج منها إلا بتضييع الوقت، فكثير من الأفلام ينفقون على إنتاجها مئات الملايين من الدولارات للفيلم الواحد، والحصيلة المقدمة للعقول والقلوب شبه صفرية، في حين أن هذا عمل تكلفته تقترب من العدم، ويعتمد على مشهد واحد وممثل واحد بطول الفيلم، ومع ذلك قد يجعل المشاهد يبكي ويتأثر ويتعلم، فتشعر أن وراء العمل عقول ومشاعر وبشر يريدون أن يعملوا بإخلاص من أجل البشرية.

أصعب مواجهات الحياة في 85 دقيقة

الفيلم يعتمد على ممثل واحد بالفعل، إذ لم يظهر على الشاشة غيره، ما يذكرك بمسرحيات الممثل الواحد، لكن الأعجب ليس في كونه فيلم الممثل الواحد، فقد حدثت من قبل في بعض الأفلام الشهيرة، بل في أنه أيضًا فيلم المشهد الواحد، وليس هذا فقط بل وأن المشهد الوحيد في الفيلم مغلق وضيق لا يتجاوز كابينة القيادة في سيارة خاصة.

إذا لم تكن قد رأيت الفيلم من قبل، فقد تظن وأنا أقول لك ذلك أن المُشاهد سوف يختنق ويمل من ضيق المشهد واستمراره حتى كلمة النهاية، إذ لا يوجد أي مشهد آخر سواه على مدى 85 دقيقة هي مدة الفيلم، كما لا يوجد غير ممثل واحد، وبناء عليه سيكون من الصعب على الإنسان أن يكمل مشاهدة فيلم مثل هذا، لكن المدهش أنه فيلم مثير يشدك بجدارة، وتخشى أن يفوتك منه حدث واحد.

قد تندهش وتقول: عن أي أحداث تتكلم وهو ممثل واحد ومشهد ضيق واحد؟ نعم، لكن الأحداث تتلاحق مع ذلك سريعًا، ما جعلني طول الوقت متشوقًا أريد أن أعرف كيف ستكون النهاية، وذلك شيء مبهر، لا، لكن قيمة العمل الحقيقية في المعنى الإنساني الرائع الذي يقدمه، ويمكنني أن أقول إن فن السنيما يتمثل في هذا العمل في أبهى صوره، فدور السنيما وقيمتها ورسالتها وواجبها نحو الإنسانية، كل هذا ستجده متجسدًا، وصحيح أنه يعد فيلمًا قديمًا لأنه أنتج عام 2013، لكن من قال إننا نتحدث عن الجديد فقط؟!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

 بداية فيلم لوك Locke

فيلم لوكيبدأ فيلم لوك بقيادة آيفن لوك –الممثل الرائع توم هاردي– لسيارته على الطريق السريع، وهو يتحدث عبر الهاتف إلى أسرته ليخبرهم أنه لن يستطيع الحضور في الموعد، فلن يتواجد معهم على العشاء ومشاهدة المباراة مع طفليه لأنه حدث أمر طارئ، ما يصدم الزوجة والطفلين.

ثم يطلب آيفن لوك مديره في العمل ليعتذر أيضًا عن عدم استطاعته الحضور في الصباح، ما ينزل على رأس المدير نزول الصاعقة، وذلك لأن آيفن هو المقاول المسؤول عن بناء أكبر برج في أوروبا، إذ ستحضر في الصباح مئات الشاحنات من أجل “صبة الأسمنت”، وهي أهم وأخطر مرحلة في العمل، لكن آيفن يقول له أعرف كل ذلك لكن حدث شيء طارئ يمنعنى من الحضور، وأنا مستعد لتوجيه المدير المساعد ديفيد عبر الهاتف وأنا أقود السيارة ليؤدي العمل بدلًا منى.

يجن جنون المدير من سماع هذا الكلام فمجرد خطأ بسيط وتكون الخسارة بمئات الملايين، لكن لوك يخبره بأنه لا مفر من غيابه في الصباح فقد اتخذ قراره ولن يتراجع عنه مهما كان، يهدده المدير بالفصل من العمل ويقول لن أستطيع أن أحميك أمام مجلس الإدارة، رغم كفاءتك ومدة خدمتك الطويلة التي لم ترتكب فيها خطأً واحدًا، فسوف يصدر قرار بفصلك من العمل دون أدنى شك، فيقول لوك: “نعم، أعرف مصيري ومستعد لتحمل العواقب”، ويتصل به أطفاله وتتصل زوجته مرارًا يرجونه الحضور إلى البيت، فهم في انتظاره من أجل السهرة وقد تهيأ الجميع لها، لكنه يعتذر لهم، وعندما تضغط عليه زوجته للحضور يصارحها بالسبب.

هل خطأ واحد يمحي جميع الفضائل؟

نعرف أنه لم يخن زوجته ولا مرة في حياته، إلا تلك المرة التي غاب فيها في رحلة عمل ونزل في بيت تشاركه فيه امرأة أربعينية، وكان قد عاد سعيدًا ذات ليلة بعد أداء عمل ناجح، فشرب كثيرًا من البيرة فوقع في الخطأ، وأن هذه المرأة حملت منه في تلك الليلة، وإنه ندم على هذا الخطأ الكبير ندمًا شديدًا، وطوال هذه المدة يحاول أن يخبر زوجته لكنه يشفق عليها من الصدمة، ثم تتصل المرأة الأخرى من المستشفى وتخبره بأن الولادة حانت فجأة، ولا بد أن تلد الليلة قبل موعدها بشهرين.

يقع في الحيرة الشديدة، وموعد العمل في الغد غير قابل للتأجيل، فعليه أن يختار بين أن يتحمل مسؤوليته مع تلك السيدة فيخسر وظيفته، أو يتوجه إلى العمل ويتخلى عن المرأة الوحيدة البائسة بعد ما سببه لها من مشكلات، هو لا يحب تلك السيدة وليس معجبًا بها، كما أنها أكبر منه سنًا بكثير، لكن يرى أن عليه مع ذلك أن يقف إلى جوارها وهي ليس لها في الدنيا غيره، والأهم أنه هو نفسه تعرض لأذى كبير، إذ تخلى عنه والده بدناءة، فلم يحضر ولادته ولم يعترف ببنوته، فعاش ناقمًا طول العمر على أبيه، ولذلك فآخر ما يريده اليوم أن يصبح مثل أبيه.

تلك هي العقدة الدرامية باختصار، لكنه لن يخسر اليوم عمله فقط بل وأسرته، بعد أن أخبر زوجته بالحقيقة كاملة وأنه متوجه إلى المستشفى حيث أنجب طفلًا من امرأة أخرى دون علمها.

بعد كثير من المكالمات الباكية منها إليه، ومن ولديه إليه، يصل الأمر إلى طريق مسدود فتقرر زوجته أنها لن تعود إليه وأن عليه أن يأتي ليأخذ متعلقاته ويرحل إلى الأبد، لقد خسر بيته كما خسر عمله ومستقبله، كل ذلك يحدث وهو يقود السيارة ولا نرى الأحداث المثيرة المتلاحقة إلا عبر مكالماته الهاتفية وهو يقود، وما زال يقود سيارته على الطريق السريع إلى لندن ليحضر ولادة ابنه من تلك السيدة، ينتهي الفيلم عند اتصال السيدة بعد أن ولد الطفل، فيسمع البطل صوته عبر الهاتف ويبتسم بتأثر وهو يشعر بالانتصار، لقد انتصر على نفسه وفعل ما فشل أبوه في فعله معه.

ملخص فيلم لوك Locke

فيلم لوك

المتعة الكبرى في العمل، بالإضافة إلى كل تلك الإنسانيات والمعنى القوي الواضح الذي يقدمه الفيلم من ضرورة أن يتحمل الإنسان مسؤولية أخطائه بنبل وشجاعة، هي أداء توم هاردي الخيالي، وانتقاله من حالة إلى حالة تعبيرية أخرى مغايرة تمامًا وبسرعة خيالية، فهو يتلقى المكالمات المختلفة في السيارة، وعندما يحدثه أولاده عن سير المباراة المثيرة التي يشاهدونها يجاريهم ويضحك ويبتسم، ويتصايح حتى يسعدهم ويعوض غيابه عن مشاهدة المباراة معهم، وعندما تبكي زوجته بعد سماع الحقيقة يواسيها والدموع في عينيه، وعندما تتعرض العملية الإنشائية لمطبات ترتسم الجدية الشديدة على وجهه، ويبذل جهدًا كبيرًا لإنقاذها بتوجيهاته عبر الهاتف رغم أنه قد فصل من عمله بالفعل، لكنه لا يريد أن يتنصل من مسؤوليته، وهكذا تجده ممثلًا يتنقل بين حالة شعورية وأخرى بمهارة مبهرة لا تصدق: زوج حنون، أب محب، موظف مسؤول، زميل غاضب.

ستكتشف في النهاية أنك لم تشاهد فيلمًا بالمعنى المعروف، بقدر ما شاهدت فكرة مبتكرة يقدم من خلالها معنى عميق النبل والإنسانية، خلاصته أن “الإنسان موقف”.

مقالات ذات صلة:

فيلم “برا المنهج”.. نقطة نور لم تدم طويلًا

فيلم John wick 2

مراجعة فيلم “في هذا الركن الصغير”

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف