مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

فوبيا التفكير البذرة الأولى للاكتئاب

عندما لا نحسن التفكير إلى أين نصل بظنك ؟

يعيش “نادر” مع زوجته وابنته الوحيدة “سارة”، يعمل جاهدا لتوفير متطلبات أسرته، وفى كل يوم لا يطيق الانتظار حتى يعود للمنزل بعد يوم عمل شاق ليلعب ويمرح مع ابنته ويروى لها حكاية قبل النوم التى اعتادت الاستمتاع بها وبعد أن تغط فى نوم عميق يتسلل برفق من الغرفة ليطمأن على حالة سارة الدراسية من والدتها، فتحكى له عن ما أحرزته سارة من تقدم فى دراستها وفى علاقتها بصديقاتها فى المدرسة ويسترجعا معا حالتهما التى كان يرثى لها قبل أن يرزقهما الله بسارة، فقد جاءت بعد أن كادا يفقدان الأمل فى الإنجاب، ومع مرور الأيام ساءت حالة سارة الصحية وظن بعضهم أنه مرض نادر إلى أن فاجأهم أحد الأطباء بأن حالة ابنتيهما ميؤوس منها وأنه لم يتبقّ لها سوى القليل! لم ييأس الأب بل دفعه حزنه الشديد إلى البحث والمحاولة ولكن دون جدوى، جاء اليوم الذى لا مفر منه، ومنذ ذلك اليوم والأب فى حالة يرثى لها، لم يعد يهتم بعمله ولا بنفسه ولا بمن حوله فانعزل عن الجميع  لدرجة أنه لم يعد يطيق حتى الجلوس مع زوجته لأنها تذكره بابنته العزيزة، لم تحتمل الزوجة فاضطرت للرحيل ولكنها كانت تزوره وتحاول التخفيف عنه بين الحين والآخر إلى أن جاء اليوم الذى لم تجد فيه الزوجة من تخفف عنه، فقد ظلت تطرق الباب طويلا دون رد وعندما فُتح الباب وجدت زوجها ملقًى على الأرض دون حراك والدماء تحاوط شريان يده من كل اتجاه.

عقلية المنتحر

عندما نستمع إلى قصص كهذه نشعر بالأسى والأسف ونتمنى لو لم يصل هؤلاء إلى تلك الحالة وفى أغلب الأحوال نلقى اللوم على الظروف أو المجتمع أو حتى الإله، محاولة منا لتعزية أنفسنا والتنفيس عن ما نشعر به من حزن وألم ولكن ماذا عن عقلية المنتحر أو مريض الاكتئاب! أليس هو صاحب القرار فى المقام الأول وهو من يحدد رد فعله تجاه ما يحدث من حوله؟

 

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذا حاولنا تحليل عقلية الأب فى المشهد السابق -بتنحية مشاعرنا وعواطفنا جانبا- سنجد أنه حدد غايته أو سبيل سعادته فى وجود طفل من صلبه يخلد اسمه ويعطى لحياة والده المعنى المطلوب، فوجود الطفل يعنى السعادة وعدمه يعنى الشقاء، وعليه سعى الأب لاستخدام كل الوسائل الممكنة لتحقيق تلك الغاية والتى تمثلت فى “الزواج والعمل وتوفير المال والإنجاب والتربية والرعاية، إلخ”، وهنا يأتى السؤال هل حدد الأب سعادته بطريقة صحيحة منذ البداية أم أنه اختار ما لا يمكن الاعتماد على بقائه وبالتالى لا يصلح كمصدر حقيقى ثابت للسعادة؟

 

بالنسبة لنا الآن تبدو الإجابة فى غاية الوضوح وهى أن التعلق بالفانى والمتغير نقيض السعادة، وبالرغم من وضوح الإجابة لنا إلا أنها لم تكن كذلك بالنسبة للأب فلماذا يا ترى؟ والسؤال الأهم هل إذا مررنا بنفس تجربته سنتصرف بطريقة مختلفة عنه أم أن مشاعرنا ستسيطر علينا ونصل إلى نفس ما وصل إليه؟

 

التفلسف هو الحل

 

الإجابة على السؤال الأول هى لأنه لم “يتفلسف”، أى أنه لم يتساءل ويفكر ولم يحاول فهم حقيقة الوجود وما ومن فيه والغاية التى أوجد الله من أجلها هذه الموجودات ولم يتأكد من ما ينبغى عليه أن يفعل فيه -أى فى الوجود- لكى يصل إلى مبتغاه “السعادة”، فأخذ يحب ويتعلق ويكافح ويجاهد ويربط سعادته بوجود هذا وشقائه فى انعدام ذاك دون أن يتأكد حقا من أن هذا هو الطريق الصحيح الذى سيوصله إلى السعادة، أما إجابة السؤال الثانى فتعتمد على مدى استعدادنا للإجابة على تلك التساؤلات التى طرحناها فى إجابة السؤال الأول، بمعنى أنه بقدر ما كان تصورنا عن الواقع والغاية التى خلقنا من أجلها صحيحا بقدر ما كان تعاملنا معه -أى الواقع- ناجحا ومثمرا ومؤديا للسعادة، وبقدر ما كان إدراكنا للواقع والغاية التى خلقنا من أجلها مشوشا وسطحيا بقدر ما كان تعاملنا معه -أى الواقع- صادما ومؤديا للتعاسة.

 

هل هذا يعنى أن مشاعرنا ستتغير إذا تغير فكرنا؟

 

مشاعرنا تتحرك وفقًا لأفكارنا فنحب ما نكون عنه تصورا جميلا ونافعا، ونكره ما نكون عنه تصورا قبيحا وضارا سواءً كان شخصا أو عملا أو مجالا دراسيا أو مأكلا أو مشربا، إلخ فإننا مثلا إذا كونا تصورا خاطئا عن شىء أو شخص ما وتعاملنا معه على أنه نافع أو أنه مصدر للسعادة وهو فى حقيقة الأمر ضار وقبيح سنحبه وسنبذل قصار جهدنا للوصول إليه وإذا وصلنا سنصطدم لأن السعادة فى نقيضه بل والأدهى أننا إذا لم نصل سنحزن ونكتئب لأنه فى تصورنا أن هذا الشخص أو ذلك الشىء هو سبيل السعادة وعدم حصولنا عليه يعنى التعاسة، وبالمثل فإننا نحزن بشدة على مفارقة من لم نتوقع فراقه أو تغيره مطلقا ونحزن قليلا إذا كنا مدركين “حقا” أننا مفارقين لا محالة وأن لكل دوره واختباره، ومع ذلك فإدراكنا لطبيعة الفانى وحدها لا تعطينا القوة الكافية لتحمل فقدها بل إن إدراكنا للباقيات التى يمكن التعلق بها هى ما سيقوينا ويخرجنا من دائرة الحزن إلى دائرة اليقظة والاتعاظ فنتحمل ونزداد يقينا واستمرارا.

 

من أين نبدأ؟

 

نبدأ بالتخلص من فوبيا التفكير والتبعية العمياء لما هو سائد، وهذا يتطلب منا مقاومة لمشاعر القلق أو الخوف التى تنتابنا عند التفكير فى مثل هذه التساؤلات السابق طرحها “لماذا خلقنا وما هو دورنا وكيف نصل إلى السعادة فى ظل هذه الغاية والدور الذى خلقنا من أجله”  وهذه المشاعر فى الحقيقة ناتجة عن بعض الأفكار المغلوطة التى تجعلنا نميل إلى السائد ونخشى التغيير ويمكننا صياغة بعضها فى الشكل الآتى:

 

ماذا إذا كانت إجابات هذه التساؤلات تؤدى إلى تغيير شامل فى معتقداتنا وأسلوب معيشتنا؟ ماذا إذا كانت الإجابات مخالفة لما أجمع عليه الكثيرون؟ ماذا إذا توصلنا لإجابات خاطئة، ألا يوجد أناس قد بحثوا قبلنا؟! بالتأكيد لا يمكن أن يكون كل هؤلاء مخطئين! فلماذا علينا إعادة التفكير … الإجابة على هذه التساؤلات فى غاية الصعوبة وقد لا نصل إلى أية إجابة عليها.”

 

هذه الأفكار وما شابهها تعد التجسيد الحقيقى للفوبيا والاتباع الأعمى لما هو سائد… لماذا؟ لأن العاقل يتأكد قبل ركوب القطار من أن هذا القطار هو الذى سيوصله حقا لغايته ولا يكتفى بقول “هذا ما وجدنا عليه آباؤنا” قد يقول البعض سأضيع كثيرًا من الوقت والجهد فيما لا أعلم نتيجته، فى الحقيقة أنت تفعل ذلك طوال الوقت دون أن تشعر بل إنك تضع أهدافا لا تعلم ما إذا كانت قابلة للتحقق أم لا وأيضا تنفق جهدا ووقتا فى تحقيق هذه الأهداف التى لا تعلم ما إذا كان تحققها سيؤدي بك للسعادة حقا أم لا!

 

وحقيقة الأمر أننا ليس لدينا إلا السعى والمحاولة وكل ما نحاول فعله هو التأكد من أن سعينا فى الاتجاه الصحيح لا أكثر ولا أقل، فالأولى أن نسعى فيما نعلم يقينا أنه إذا نجحنا فى الوصول إليه سنحصل على السعادة والأولى أيضا أن نتأكد من أن هذه الوسائل والأهداف هى بعينها التى ستوصلنا بدلا من اتباع ما أجمع عليه الآخرون من أنه يُوصل ثم نندم ونكتئب حزنا على ضياع الوقت والجهد فيما لا يسمن ولا يغنى من جوع.

 

خلاصة

 

عمق الفكر وواقعيته نتاج تفكير دائم صحيح، و التفكير الصحيح يبدأ بطرح السؤال الصحيح، والإجابة الصحيحة تأتى من انتخاب المعلومات الصحيحة وتوظيفها بشكل صحيح وهذا كله هو دور علم المنطق الذى فُطر الإنسان على استخدامه فى كل أمور حياته الفكرية والعملية ولكنه تخلى عنه فأصبح بحاجة لتعلمه مرة أخرى أو لنقل العودة إلى فطرته، ولا سبيل للعودة إلا بالتساؤل والتحرر من التبعية العمياء لما هو سائد والتخلص من فوبيا التفكير .

 

وبناء عليه يمكننا القول أنه كلما زادت واقعية الإنسان، أى زاد إدراكه لحقيقة الواقع وما يحكمه من قوانين وللغاية التى خلق من أجلها، كلما زاد تأقلمه مع المتغيرات وقلت صدماته الناتجة عن سوء توقعاته، فكثيرا ما نطلب ونتمنى قبل أن ندرك حقيقة ما نطلب ونتمنى، فنطلب من المتغير الثبات، ومن الفانى البقاء، ونطلب النتيجة دون اتباع الأسباب، فكأننا نطلب المستحيل ونحزن ونكتئب لعدم تحققه!

اقرأ أيضاً :

 

ماذا تعنى ؟؟

انطباعات: انتحار نجم فرقة الروك “لينكين بارك”

نعلم الحقيقة ولكن…

محمد خيري

عضو بفريق بالعقل نبدأ القاهرة