ثقافة الاعتذار
لست أدري سرّ حفاوتي واحترامي لمن أسمعه يعتذر عن خطأ بدر منه، أو هفوة وقع فيها، إلا أنني أجدني مشدوهًا نحو تحليل شخصيته، واقفًا على أغوارها، لأكتشف أنني أمام ضمير فطري لم تلوثه عوادي الدهر، ونفس سوية تخترق بضيائها الكاشف غياهب الحياة.
إن الاعتذار ثقافة راقية تنم عن نفس مستقيمة ترفض التعالي، يغمرها نور من الحق، ويجذبها سرّ خفي من الوقار، ولا ترى في الرجوع عن الخطأ، وإبداء الندم ضعفًا، بل تُعالن دون مواربة معترفة بما وقعت فيه من هنّات، أو سقطت فيه من أخطاء.
الاعتذار والرجوع عن طريق الخطأ ثقافة رقراقة لا يعرف قدرها إلا الأسوياء من البشر، الذين يقدرون العلاقات الإنسانية حق قدرها، ويتخففون أولًا بأول من ثقل الخلافات والكراهية، وما يستلزم ذلك من كسر الأخوة والمحبة بينهم وبين الناس.
لا يصدر الاعتذار إلا عن نفس متواضعة، لا تعرف للكبر طريقًا، ولا للغرور مسلكًا، بل توقن جيدًا أن هذه الثقافة هي السبيل لمحو الذنوب، وقبول الإنسان عند ربه، وعند الناس.
حينما قال رسولنا (صلى الله عليه وسلم): “كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ” ([1]) إنما أراد أن يبين حقيقة دامغة، وهي أنه ليس من البشر من سلم من الخطأ إلا من عصمهم الله تعالى، وأن الإنسان مهما كانت قوة إيمانه مُعرّض للوقوع في الخطأ، وهذا لا يقدح في إنسانيته أو إيمانه، ما دام أنه يستدرك خطأه، ويتراجع عن ذنبه بالتوبة والأسى والندم.
معنى الاعتذار
من منا لم يخطئ؟ ومن منا لم يجرح إنسانًا بقصد أو دون قصد؟ ومن منا لم تخرج من لسانه كلمة كانت سببًا في وجع أحد؟ وهنا يجب أن نراجع أنفسنا، لنجد أن ساحة الاعتذار واسعة، تتسع العائدين والنادمين والأوّابين، الذين يراجعون أنفسهم ويحاسبون ذواتهم، وهم يراوحون بين اعتذار في فينة، وتوبة في فينة أخرى.
لا ريب في أن الاعتذار من شيم الرجال، وهو كفيل بأن يزيل الحقد والكراهية من صدر من وقع الخطأ في حقه، ولم يكن الاعتذار يومًا دليلًا على ضعف الشخصية، ولا مؤشرًا لانتقاصها إلا عند ذوي النفوس المريضة، والعقول الواهية، فليس العيب أن تخطىء، ولكن العيب أن تتمادى في الخطأ، وتركب متن الشطط في الكبر والعناد، فلا تعرف للحق طريقًا، ولا تطرق للتواصل بابًا، فتنقطع علاقاتك مع من حولك، وتجد نفسك في مكان قصي من المحبة.
إن الذين يرجعون عن أخطائهم، ويعترفون بذنوبهم، ويندمون على ما اقترفوه في حق غيرهم، أولئك من الفائزين برضوان ربهم، ومحبة خلقه، فالناس تحب من العباد الهيّن الليّن المتواضع الذي لا يكابر في الحق، ولا يترفع عن الاعتذار، وهؤلاء مكانهم مجاورة النبي (صلى الله عليه وسلم) في الجنة، قال (صلى الله عليه وسلم): “إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقًا”. ([2])
اقرأ أيضاً: انشروا الحب والتسامح
اقرأ أيضاً: كيف يكون الحوار الراقي
ثقافة الاعتذار في الإسلام
لقد رغَّبنا ديننا الحنيف في التحلي بمكارم الأخلاق، ومعاشرة الناس بالقول الليّن والفعل الحسن، وقد قال بعض الحكماء: “من عاشر إخوانه بالمسامحة دامت له مودتهم”([3])، بل إن أخلاق المسلم تدعوه إلى الإقرار بالذنب، والتوبة منه، وكما قيل: “الندم توبة، والخجل إنابة، ولا ذنب لتائب، ولا لوم على منيب”([4]).
في الوقت ذاته علمنا ديننا الحنيف قبول الاعتذار، والعفو عن المسيء إذا بدر منه عودة عن إساءته، ولنا في يوسف –عليه السلام– الأسوة الحسنة حينما عفا عن إخوته لمّا بدر منهم الأسف، وذلك في قوله تعالى: “قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين”، يوسف: 91-92، فقد قابل يوسف –عليه السلام– الاعتذار بالعفو.
قال بعض البلغاء: “من لم يقبل التوبة عظمت خطيئته، ومن لم يحسن إلى التائب قبحت إساءته”، وقال بعض الحكماء: “الكريم من أوسعَ المغفرة، إذا ضاقت بالذنب المعذرة”. ([5])
فوائد الاعتذار
الاعتذار كفيل أن يعيد العلاقات الإنسانية إلى جمالها وصفائها، فكم من بيوت قد انهدمت لغياب ثقافة الاعتذار، وكم من علاقات قد انبترت بسبب العناد في تقديم الاعتذار، وكم من مؤسسات قد سقطت، لأن القائمين عليها لا يعرفون قيمة الاعتذار، بل سولت لهم أنفسهم كبرًا وعلوًا أن الاعتذار سيهدر كرامتهم، ويزيل الفروق بينهم وبين غيرهم، فتمادوا في عنادهم، وزهدوا في الاعتراف بأخطائهم، فأسقط في أيديهم وهم يرون فشلهم في عملهم واحتواء من حولهم.
إننا يجب أن نربي أولادنا على هذه الثقافة السديدة، التي تنم عن أدب ورقي وفهم صحيح لقيمة العلاقات الإنسانية، فالإنسان لا يعيش في الحياة بمفرده، وهو بطبيعته كائن اجتماعي، وهذه الطبيعة تفرض عليه التعامل مع الناس في شتى شؤون الحياة، والناس تألف صاحب الخلق الرفيع الذي لا يصعّر خده لغيره تعاليًا وغرورًا.
من الأخلاق الرفيعة خلق التواضع الذي يدفع صاحبه إلى اللين والاعتراف بالخطأ، فحينما تطالع محيطك الذي تعيش فيه، ستجد أنه كلما كان الإنسان متواضعًا مع الناس خلوقًا في معاملاتهم، ارتقت مكانته، وكلما ارتقت مكانته ازدادت محبته.
اقرأ أيضاً: دعني أعتذر وأنصت إليّ يا صديقي
تعرف على: أخلاق الفرسان
هل الاعتذار يقلل من قيمة الإنسان؟
إنك إذا وقفت قدرًا أمام باب مع إنسان غريب عنك، وقلت له: “أنا أولًا”، سيكون الرد: “بل أنا، وهل أنت أفضل مني؟”، لكنك لو قلت له: “أنت أولًا”، سيكون الرد: “بل أنت!”، وهكذا تجد أن ردة الفعل تتوقف على فعلك، إذا احترمت الناس احترموك، وإذا قدّرتهم رفعوك.
الذين يرفضون الاعتذار ويترفعون عنه يرون في أنفسهم المثالية، ومن ثم فإنهم يشعرون أن اعتذارهم ضعف وهوان، والحق أنهم في الوهم يعيشون، وفي طريق الباطل يسيرون، لأن الاعتذار يهدهد شموس النفوس الشاردة، ويجلب محبة القلوب النافرة، ويصل ما انقطع من علاقات في صورة مؤثرة، بل هو لوحة جمالية من كمال الأخلاق.
قد يتعرض الإنسان في حياته إلى ألوان من الاستفزاز ما يدفعه إلى ردة فعل غير سوية، ويخرجه عن حد الانضباط، ويجعله يجاري السفهاء في سلوكهم، فيقع في المحظور، إذ إنه نسي قول الله تعالى: “وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا” الفرقان: 63.
فن الاعتذار
من هنا يجب أن يراجع الإنسان نفسه، ويعيد النظر في مواقفه وردود أفعاله، ولنا أن نطالع سيرة الصالحين، لنأخذ منها العبرة والعظة في ردود الأفعال حالة الغضب، فها هو ذا “أبو الدرداء” حينما شتمه رجل، قال له: “يا هذا لا تُغْرِقن في سبّنا، ودع للصلح موضعًا، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله –عز وجل– فيه”.
ها هو ذا “الشعبي” قد شتمه رجل، فقال له: “إن كنتُ كما قلتَ فغفر الله لي، وإن لم أكن كما قلتَ فغفر الله لك”([6])، وقد أسمع رجل “عمر بن عبد العزيز” كلامًا، فقال له عمر: “أردتَ أن يستفزني الشيطان، لعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غدًا، انصرف رحمك الله”([7]).
لا مشاحة في أن السلوك الإنساني المستقيم قوامه عدم إيذاء الناس، وعدم قطع العلاقات الطيبة معهم، وعدم توجيه الألم والأذى إلى قلوبهم، فعليك أن تربأ بنفسك أن تكون سببًا في ظلم أحد أو في وجع أحد.
إن الرحيل حتمي علينا مهما طالت بنا الحياة، ولن نترك بعد رحيلنا إلا الذكرى الطيبة والسيرة الحسنة، وهل سُطرت على مدار التاريخ سيرة حسنة لم يكن الخلق الحسن في أول سطورها؟
إن الاعتذار هو الشفاء للقلوب المنكسرة، والجروح الغائرة، والبيوت المنهدمة، والعلاقات المنصرمة، وهو الدواء للقضاء على الكراهية والحقد والضغينة والجفاء والقطيعة، نسأل الله أن يرزقنا كمال الأخلاق، وألا نكون سببًا في ألم أحد أو وجعه.
المصادر
[1] ) سنن الترمذي ، حديث رقم (2499).
[2] ) سنن الترمذي، باب معالي الأخلاق، حديث رقم ( 2018)
[3] ) أدب الدنيا والدين للماوردي، تحقيق/ مصطفى السقا، ط الهيئة العامة لقصور الثقافة 2004م، ص315.
[4] ) ينظر: السابق ، ص313.
[5] ) السابق والصفحة.
[6] )ينظر: أدب الدنيا والدين ص 229
[7] )ينظر: السابق ص 236.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا