مقالاتقضايا وجودية - مقالات

لا تركننّ إلى الدّنيا وما فيها فالموت لا شكّ يفنينا ويفنيها

الموت صاحبنا !

ربما لم تعرف البشرية صاحبا مثيرا للجدل لصيقا بها منذ مهدها إلى حاضرها مثل الموت، شهده كل إنسان، وعرفه كل بيت، وسيواجهه كل بشري.

الموت أحد الظواهر الموجودة في الكون حولنا، وهو تغير معين يمر بالإنسان والحيوانات والنباتات، وهو عدم الحياة في الجسد المادي لهذه الموجودات، وعدم مظاهر هذه الحياة كالنمو والإحساس والحركة الإرادية. والنظرة للموت تختلف باختلاف النظرة للوجود وللإنسان وحياته، والمعتمدة بالتبعية على طريقة النظر نفسها أي طريقة التفكير واكتساب المعرفة.

فالاتجاهات المادية التي لا تعتمد في نظرها إلا على الحس والتجربة ترى الإنسان مجرد جسد، وحياته في هذا العالم المادي هي الحياة الوحيدة له، وبالتالي فالموت عندهم هو فناء الإنسان وعدمه وانتهاؤه، وبالتالي هو شر محض، وفجيعة قصوى، ويجب أن يهرب الإنسان منه بكل قوة. وعندما حاول بعضهم الالتفاف على ذلك قال إن عدم الجسد لن يؤدي لشعورنا بألم، وبالتالي فالموت ليس مؤلما. أو أن يقول إن الحياة عذاب مستمر، وبالتالي فالموت راحة من هذا العذاب.

أما الاتجاهات التي تقصر معرفتها على النصوص الدينية الموجودة في بيئتها تختلف نظرتهم للموت وما بعده باختلاف الدين الموجود في بيئتهم ونصوصه، وإن كانت في الأكثر تتحدث عن حياة بعد الموت، وثواب وعقاب مرتبط بما فعله الإنسان من أفعال في حياته.

نظرة العقل لقضية الموت

أما في النظرة العقلية البرهانية فقد ثبت أن للإنسان جانبين، جانب مادي هو جسده هذا، وجانب غير مادي أو معنوي هو عقله وروحه، وأن الجانب المعنوي هو حقيقة الإنسان، وهو المتحكم في الجسد، بينما جسده هو وسيلة وأداة يستخدمها العقل والروح من أجل الوصول لما فيه نفعهما الحقيقي، أي لما فيه كمالهما، مثل اكتساب المعارف الحقة، وعمل الأعمال الخيرة والجميلة، ومعرفة الحق وعمل الخير ينعكسان على نفس الإنسان لذة وسعادة حقيقية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والجسد متواجد في هذا العالم المادي، قادر على الحركة والتغير فيه، وبالتالي يُمكّن العقل والروح من اكتساب هذه الأمور باختيارهما، ويمكنهما من السعي والتطور، فتواجد الإنسان في هذا العالم بجسده هو وسيلته الوحيدة للتكامل الاختياري.

والعقل أو الروح يرعيان الجسد أيضا، ويلبيان احتياجاته بقدر ما، لكي يقدر أن يساعدهما في مبتغاهما هذا، فهما يخدمانه كي يخدمهما، كما تخدم أنت حصانك كي يخدمك ويحملك.

حتمية الموت

ولأن وجود الشيء متوقف على وجود أسبابه، ومن أسباب وجود الجسد وجود أجزائه ومكوناته في ترتيب ونظام وصورة معينة إن اختلت فسد الجسد ومرض، وإن كان الاختلال شديدا مات الجسد أي انعدمت فيه الحياة ومظاهرها، ولأن الأجسام الموجودة في العالم المادي في حالة حركة وتغير مستمر، مما يعني أن بقاءها على نظام ثابت أو صورة واحدة مستحيل، فهي في حالة تحلل دائم، إذن فالموت حتمي لها. وإن كان تأخره يرجع لوجود قوى في الجسد تحاول أن تعالج هذا التحلل وتأخره وتعوضه.

بينما العقل أو الروح فأسباب وجودهما غير مادية، وغير المادي لا يتحرك ولا يتغير مثلما تتغير الأجساد، وبالتالي بفناء الجسد لا تفنى الروح أو العقل، بل يبقيان، بينما تنتهي فقط قدرتهما على استعمال هذا الجسد للتكامل الاختياري في العالم المادي، أي تنتهي فرصتهما لاكتساب المعارف والاعتقادات الحقة، وعمل الأعمال الجميلة والخيرة.

وبالتالي فمصير الإنسان بعد الموت معتمد على معارفه واعتقاداته وعلى ما اكتسبه من سلوكيات اختيارية في حياته، إن خيرا فخير وسعادة، وإن شرا فشر وشقاء، ويمثل الموت انتهاء فرصته لهذا التكامل الاختياري.

وإذا وجّهنا النظر للوجود بأكمله، ترى النظرة العقلية البرهانية أن للكون مُبْدِئًا كاملا وجميلا كمالا وجمالا مطلقا ومحضًا، وأن الكون أثر لهذا الكمال والجمال، فلا يصدر عنه سبحانه إلا كل جميل. وبالتالي فالموت خير وجمال وليس شرًا أو قبحًا، وإنما يكون شرا وقبحا إن اختار الإنسان بإرادته التي أعطاها له مُبدِئ الكون أن يبتعد عنه وعن الكمال والجمال أثناء حياته، فلا يعتقد إلا باطلا ولا يفعل إلا شرا. وقتها فقط يكون الموت شرا له، لأنه ينهي فرصة هذا الإنسان في معرفة الحق وعمل الخير، وهو ليس شرا في ذاته هنا، بل الشر الحقيقي هو اعتقاد هذا الإنسان وفعله أثناء حياته.

الموت خير بشرط…

وإن تابعنا مع هذه النظرة فهي ترى أن الأصل في خلقة الإنسان وطبيعته هي حبه للحق والخير، وذلك لاستعلاء عقله وروحه بشكل طبيعي على جسده، وإن انتكاسه التام ضد هذه الطبيعة هو في حكم النادر، نعم قد يبتعد عنها قليلا أو كثيرا في بعض المواقف لكن معاندته لها بشكل تام طيلة حياته هو أمر أقلي في الوجود.

وبالتالي فالموت في هذه النظرة خير، والكون نفسه خيّر، وطبيعة الإنسان خيّرة، ويغلب على فعلها طلب الحق والخير، وعلى الإنسان أن يستعد قدر استطاعته للموت، لأنه –كما سبق- يؤدي لانتهاء قدرته على التكامل الاختياري، فعليه إذن أن يستغل فرصة حياته قدر استطاعته، ويستثمر كل لحظة فيها، كي يغترف من الحق والخير والتكامل لأقصى حد ممكن، فينعم بمزيد خير وجمال بعد الموت، فهي درجات من الجمال والخير بعضها فوق بعض. ويستعين العقل بالنصوص الدينية التي تثبت صحتها عنده لمعرفة تفاصيل وجزئيات أكثر عن الموت وما بعده.

وأحيانا في طلب الإنسان للتكامل وعمله بالحق وفعله للخير قد يواجه موقفا يودي بحياة جسده نفسها، هنا يكون الاختيار والاختبار الصعب، هل يطلب الإنسان الخير الحقيقي فعلا أم يتركه حفاظا على حياة جسده؟ أي هل يطلب الغاية أم ينخدع بالوسيلة؟ لذلك تظهر القيمة العليا للشهداء في كل الثقافات والأديان، لأنهم قدموا طلب الحق والخير على حياتهم نفسها، وقدموا إرادة العقل والروح على إرادة أجسادهم، ففني الجسد لأجل الروح، وانطفأت شمعة المادة لأجل شمس الكمال لنفسه ولغيره.

اقرأ أيضا:

 أزمة العدالة والخير و الشر.. ألن نتمتع بعالم خالٍ من الشرور ؟

القوى الكامنة في الإنسان .. لماذا نحن مميزون بالعقل (1)

العلاقة بين الترتيب والسعادة – رتب دماغك تنعم بحياتك

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد عزت

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا