مقالات

فلسفة الفكاهة Philosophy of Humor

بغض النظر عن اختلافاتنا وخصوصياتنا، فإن ثمة كليات إنسانية نشترك فيها جميعا؛ منها ما هو بيولوجي مثل الحاجة إلى الأكل والشرب والنوم، ومنها ما هو ثقافي واجتماعي مثل تحديد الثقافات المختلفة للمحظورات الغذائية والقواعد الحاكمة لعلاقات القرابة وقواعد الإقامة في الحيز المكاني– الزماني، حتى ولو استخدمت هذه الثقافات معاييرا مختلفة عن بعضها البعض. والفكاهة هي إحدى هذه الكليات الإنسانية؛ تجدها حيثما ذهبت، في أي مكان وزمان، وفي أية ثقافة مهما كانت خصوصيتها، ولا نبالغ إن قلنا إن الفكاهة هي إحدى الوسائط الأساسية للوجود في العالم. فلا عجب إذن أن تجد الفلاسفة منذ «أرسطو» وحتى يومنا هذا يسعون لسبر أغوار الفكاهة.

سمات الفكاهة

ولعل إحدى السمات الملاحظة والمؤكدة للفكاهة أنها شكل من أشكال الترابط البشري؛ فنحن نتشارك النكات، وقد لا نستطيع الانتظار أحيانا فنبادر بسرعة لإخبار أصدقائنا بشيء مثير للسخرية حدث خلال اليوم، أو نطلعهم على بعض الصور المضحكة.

بل إن صفحاتنا على الفيس بوك لتمتلئ بالتعليقات والصور والفيديوهات الساخرة التي نعبر بها عن سخطنا أو انتقاداتنا لأوضاع اجتماعية أو سياسية فجة، وكأننا نواسي أنفسنا ونكبح جماح غضبنا بالضحك.

نعم، قد يكون لمعنى الترابط البشري بالفكاهة جانب سلبي حين تستخدم الفكاهة للتحقير أو لتشويه السمعة، وحين تنطوي على تلميح جنسي أو عنصري، ولكن لِمَ تتسم الفكاهة بهذه القوة في التعبير والحشد وامتصاص الغضب؟ ما الذي يحدث داخل عقولنا حينما نضحك؟ وما هو الشيء الذي يدفعنا إلى الضحك؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثمة استنتاجات محبطة يضعها أمامنا علم دراسة الضحك «الجيلوتولوجيا» Gelotology؛ فالأطفال يضحكون حوالي 400 مرة يوميا، في حين يضحك البالغون حوالي 17 مرة، وقبل سبعين عاما كان الناس يضحكون بمعدل يزيد ثلاث مرات في اليوم عن معدل ضحكهم الآن.

إن قدرتنا على الضحك ترتبط ارتباطا وثيقا بإنسانيتنا، وهذا ما يجعل الضحك مثيرا لاهتمام الفلاسفة، لأن تفاوت معدلات الضحك بين الصغار والكبار، وبين الماضي والحاضر، يعني أن ثمة ما يؤثر على إنسانيتنا بالسلب.

العلاقة بين الفلسفة والضحك

لكن ما الذي يمكن أن تضيفه الفلسفة لدراسة الضحك؟ أليس الموقف الفلسفي برمته على النقيض تماما من الفكاهة؟ أليس التحليل الفلسفي ذاته مقبرة للمرح؟ ألم يكتب الفلاسفة عن الضحك في معية العقل الحزين الموقن بأن لحظة الضحك والفكاهة ليست خالية من نكهة المرارة التي تفرضها دوما تراجيديا الحياة ومآسيها؟ ألسنا نردد عادة أن شر البلية ما يضحك؟

الحق أن أكثر ما كتبه كبار الفلاسفة مثل «أفلاطون» و«هوبز» و«كانط» عن الفكاهة لا يعدو أن يكون فقرات قليلة في إطار مناقشاتهم لموضوعات أخرى، ولعل أول كتاب لفيلسوف بارز عن الفكاهة هو كتاب «الضحك» Laughter للفيلسوف الفرنسي «هنري برجسون» الذي نُشر لأول مرة سنة 1900، وفيه حدد ثلاث سمات أساسية للفكاهة:

مؤدى الأولى أنها ظاهرة بشرية بحتة، إذ لا يمكن أن يكون أي مشهد طبيعي مصدرا للضحك، وحتى عندما نضحك من سلوك بعض الحيوانات فإنما يكون ذلك بإدراك منا لانعكاسات السلوك البشري عليها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الإنسان فقط هو من يمكنه الضحك، ويمكنه أن يكون في الوقت ذاته مصدرا للضحك.

وأما السمة الثانية فمؤداها أن الضحك يستلزم اللامبالاة والانفصال عن الإحساس أو العاطفة، حيث يصعب على المرء الضحك حين يكون مدركا لخطورة الموقف الذي يكابده. وأما السمة الثالثة فمؤداها أن الضحك نشاط اجتماعي؛ يمكنك أن تمارس الضحك حين تكون عضوا في جماعة، بمعنى أنه غالبا ما يكون هناك تواطؤ في الضحك!

الضحك ما بين الرفض والقبول

على أن الشيء المثير للدهشة هو التوجه السلبي للفلاسفة في تقييماتهم للفكاهة، بداية من الفكر اليوناني القديم وحتى عصرنا الحالي. كان أفلاطون منتقدا للضحك بشدة، ولم يتردد في وصفه بالعاطفة الهادمة لضبط النفس العقلاني، والرذيلة العاكسة للجهل الذاتي، والسلوك الملازم للعبيد!

وقد أثرت هذه الانتقادات على أغلب المدارس الفلسفية بعد أفلاطون، بل وعلى الثقافات الدينية التي شددت على ضبط النفس وعدم الانسياق للضحك المفرط أو السخرية أو الكوميديا الهزلية!

تحضرني في هذا المقام مقولة الشاعر الإنجليزي «بيرسي بيش شيلي» Percy Bysshe Shelley (1792 – 1882): «أثق أنه لا يمكن أن يكون ثمة إحياء كامل للبشرية حتى يتم إخماد الضحك»! ومع ذلك أتصور أن الضحك الذي كان ينظر إليه في السابق كرذيلة ممقوتة، أصبح وما زال يمثل ضرورة مطلقة للحياة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

صحيح أن صراعات الحياة ومهازلها ليست مضحكة، لكن الفكاهة والسخرية – بالمعنى المفارق للتنمر – باتا السلاح المزدوج لكافة المعذبين في الأرض في مسيرتهم الحياتية البائسة، وقد تم استخدام الضحك مؤخرا كوسيلة طبية للتعافي من أمراض العصر، حيث يكفي فقط خمس عشرة دقيقة من الضحك يوميا لتنشيط القلب والدورة الدموية، وتقليل حدة التوتر والقلق، وتعزيز إنتاج الهرمونات الصحية!

اضحك كلما استطعت، فهذا دواء رخيص.. مقولة أنصح بها نفسي البائسة وعقلي الحزين قبل غيري.. لعلي يوما أستطيع!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضا:

الكوميديا ودورها الهام والمؤثر في الغزو الثقافي والفكري

لماذا الفلسفة الآن؟

هيراقليطس الباكي، وديموقريطس الضاحك!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة