مقالات

رمضان .. الحياة وما وراء الحياة

ليس دين مثل الإسلام ارتبطت عباداته بالحياة وما وراء الحياة ربطًا مباشرًا واضحًا لا محايلة فيه، هذه حقيقة معروفة كما أن هذا طبيعي، ومفهوم أيضًا، كون الإسلام يمثل الرسالة الأخيرة من السماء إلى الأرض. رسالات السماء تتابعت على الإنسان في الأرض بمراحل وتدرج يعلمه الله وحده.

قد يكون لذلك اتصالًا بفكرة “التطور” الذي حدث بإرادة الله في مسيرة البشرية على الأرض، كونه تطورًا موجهًا محكومًا بتدبير وقصد، وكون ذلك من القوانين الكونية التي خلقها الله، لتدبير الأمر في الكون.

في كل الأحوال قد تعلمنا من الإسلام العظيم أن نتعامل مع حقائق الحياة العملية، بعملية، نفهمها ونعيها ونحياها، ونقلل ما استطعنا من أحاديث وأقاويل غير عملية ولا يستفيد منها الواقع، لا فكرًا ولا فعلًا.

رحلة إيمانية في أعماق القرآن الكريم

على أن لدينا في القرآن الكريم كل ما ينبغي لنا وعلينا معرفته، عمن قبلنا وسبقنا وكيف كانت تجربته في الحياة وأفكار الحياة، له ولنا.

لنا هنا أن ندرك أننا لن نصل إلى الأعماق البعيدة للمعاني التي تحملها نصوصه وآياته من كتابات المفسرين، الذين قدموا مشكورين ومسؤولين ما قدموه من دراسات في علم التفسير، وهو شأن يخص التاريخ الأكاديمي بالأساس، قد نحتاجه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن ليس في رحلة كل يوم، التي عناها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بوصفه لمن يقرأ ويرتل، بالحال المرتحل، الذي يرحل من أول القرآن إلى آخره ومن آخره إلى أوله.

لكني أتحدث هنا عن العلاقة المباشرة المتصلة بتمام وكمال الإحسان في صدق العبودية وإخلاص العبادة للرحمن، فأنت تتلو كلامه سبحانه كما تنزّل من لدنه، وفي وعيك أن الله يكلمك، كم جاء في الأثر عن الحسن البصري: “من أراد أن يكلمه الله فليقرأ القرآن، ومن أراد أن يكلم الله فليصل”.

وما أدراك من الحسن البصري (ت/728م)، الذي وصفته أمنا العظيمة السيدة عائشة بأنه يتحدث حديث الصدّيقين.

من خصائص القرآن الكريم

فلسفة الصيامأتحدث عن الأعماق البعيدة للمعاني التي سيجد فيها كل طالب مطلبه، والمعنى في الرحلة والارتحال، والقصد من كلام الحسن، والجزاء عن الحرف بعشرة، كما أن اليوم ليس كأمس، وغدًا ليس كبعد غد، كل ذلك سيأخذنا إلينا وإلى أروع ما فينا يومًا ما! كيف يكون ذلك؟

تقول الحكاية أن عالما النفس الشهيرين “كريك /لوكهارت” اكتشفا فينا نحن البشر نظرية أسموها “مستويات المعالجة”، كما جاء في كتاب “المخ البشري” للدكتورة كريستين تمبل وترجمة د. عاطف أحمد.

التي تقول: “كلما أعاد الفرد معالجة موضوعًا معينًا، كانت قدرته على التعمق فيه وفهمه أفضل وأدوم”، وأصلًا من خصائص القرآن أنه “لا يخلق من كثرة الرد”، كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والمعنى مشهور بالطبع، وهو أن الإنسان لا يمل من تكرار تلاوته.

رمضان شهر نزول القرآن

إذا كانت “الصلاة” بميقاتها حركة الزمان في الإنسان، وبإقامتها حركة الإنسان فيما وراء الزمان، فستكون تلك العبادة من أكثر العبادات ارتباطًا بالدنيا والناس في حياة الفرد، ليس فقط لمركزية المسجد في المجتمع، ولا في لقاء الجمعة إلى الجمعة..

لكن لاتصال حضورها في الإنسان، بالحضور الأخلاقي الدائم للإنسان، في الحياة ومع الناس، لأنها ببساطة تجعله دائم المراجعة لنفسه ووجوده، وعلاقة الوجود به وبنفسه، في مناجاته المستمرة لخالقه وخالق الوجود.

إذا كانت الزكاة شرايين المرحمة المفتوحة على قلب المجتمع، وإذا كان الحج لقاء الأمة التي تنظر نفسها وتنظر الأمم من حولها (أو ما يفترض أن يكون إن شاء الله).

فما منزلة الصيام إذن، الذي اختصه الله بخصائص هامة للغاية؟ ليس فقط لأنه “العبادة الساكنة” التي ليس فيها فعل، وليس فقط لأن الله افترض زمانه بذكرى أعز وأغلى ما للأمة في تاريخها من ذكريات؛ نزول القرآن، فكان رمضان، وكان الصيام، وكانت الأمة، في وحدتها التي لا نظير لها في التاريخ.

صوم رمضان علاج للقلب والروح

فلسفة الصيامبل وكان الفرد في طاعته وحبه الخفي لله الرحيم الودود في عبادة مكنونة بينه وبين الله، التي لا نظير لها في العبادات، كما قال المفكر الإيراني على شريعتي (ت/ 1976م): “إن الصوم نظام يمنح الإنسان قوة في مواجهة أشد الميول الغريزية والفردية في نفسه، ويجعله مسيطرًا عليها في طريق الإيمان”.

صحيح، فقدرة الفرد على السيطرة على فرديته عمومًا عن طريق السيطرة على أشد غرائزه الفردية خصوصًا، ستجعل منه سيدًا على نفسه وعلى الأرض وما عليها.

المفكر الألماني الكبير يوجين هابرماس (94 سنة)، آخر عمالقة العقل الفلسفي الأوروبي في العصر الحديث، له جملة جميلة جدًا قالها في كتاب “المعرفة والمصلحة”، ترجمة د. حسن صقر.

ماذا قال العم هابرماس؟ قال: “إن المهم في علاقتنا بالواقع ليس الواقع نفسه، لكن الأفكار التي تدور بيننا وبين هذا الواقع”.

كلام مهم سيأخذنا إلى حيث يجب أن نكون، من حيث إن علاقتنا بالواقع يفترض أن تكون عبر أسمى خصائصنا “العقل”، الذي ينتج “الفكر”، الذي ينشئ “الواقع”، وأيضًا يقَيمه ويوجهه ويضبط إيقاع تغيره وتطوره.

إشارة إلى تكريم الإنسان بالعلم

لأن الفكر والمفكرين قد غُيِّبوا عن الحكم والواقع بدئًا من 1952م، بعد أن وضعوا على عيون الناس غشاوة من الحزن المنسوج من الخوف والأكاذيب، ستجد أن التغيرات الاجتماعية والسياسية التي بدأت من هذا التاريخ مليئة بالاضطراب والفوضى والمتاهات والخراب.

لسبب بسيط للغاية، أن الواقع يسير لا على هدى الفكر لكن على هدى سلطان الهوى، وما من يوم تطلع فيه الشمس إلا ويتنازع الإنسان علمه وهواه.

جملة هابرماس هنا ليست لحساب الفلسفة والتفلسف والتنظير والتعقيد والتقعيد وكل هذه الاتهامات الظريفة، الجملة هنا لحساب قوتها وقوتها فقط، التي اكتسبت قوتها لدينا من الكلمة الأولى التي تنزلت من السماء إلى الأرض، وفي رمضان! كلمة “إقرأ”، التي تكررت في نفس سورة “العلق” مرتين، وفي المرة الثانية كانت الدعوة للقراءة متربطة باسم الله الكريم الأكرم سبحانه وتعالى.

لك أن تتخيل أن تكون الدعوة للقراءة مصحوبة بأنك تقرأ ومعك ربك الأكرم في عطاء لا ينقطع ولا يفنى، عطاء بغير حساب، فالمعاني والمعارف لا تنتهي عند حدود الكلام والألفاظ.

فقط علينا أن نتذكر هنا شيئًا هامًا للغاية؟! وهو لا بد أن “نقرأ”!

فلسفة الصيام عند مصطفى صادق الرافعي

فلسفة الصياملكن ما علاقة الفكر والواقع والإنسان والحياة، بالصيام ورمضان؟ هذا ما يحدثنا عنه أديب العربية الأرفع مصطفى صادق الرافعي (ت/1937م)، الذي يتحدث عن الصيام ورمضان في كتابه الشهير “وحي القلم”، تحت عنوان “شهر للثورة: فلسفة الصيام”.

يقول الأستاذ الرافعي: “بالصيام تكون الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة، تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويُطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يعلِّم الرحمة ويدعو إليها، وهي تلك الفكرة التي يكون عندها مساواة الغني للفقير من طبيعته، واطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته، ومن هذين: الاطمئنان والمساواة..

يكون هدوء الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلْب والإيجاب في هذا الاجتماع الإنساني، إنها والله طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس، وتطهير الاجتماع من خسائس العقل المادي ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين، والمحرَرة في باطنها من القوانين، إلى قانونٍ من باطنها نفسه، يطهر مشاعرها، ويسمو بإحساسها، ويَصرِفها إلى معاني إنسانيتها، فيجعلها صافية مشرقة بما يجتذب إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق”.

إنها عبادة الضمير الهادي، التي يخرج منها المسلم شاعرًا شعورًا عميقًا بكرامته الشخصية.

فهو لا يريد إلا الله، ولا يخاف إلا الله.

مقالات ذات صلة:

شهر رمضان

لماذا علينا تحمل مشقة الصيام؟

مرحب شهر الشو مرحب!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. هشام الحمامى

رئيس المركز الثقافي اتحاد الأطباء العرب – عضو الأمانة العامة والمجلس الأعلى لاتحاد الأطباء العرب – مدير الشئون الطبية بقطاع البترول