مقالاتقضايا شبابية - مقالات

فلسفة الانعزال… حقيقة أم خيال؟

 الانعزال

انتشرت دعاوى العزلة خاصة بين فئة الشباب من الجنسين، وتبنى كثير منهم فكرة أن السلامة فى الوحدة، والسعادة عدو الاجتماع، وأصبحوا زاهدين فى تكوين العلاقات الاجتماعية بأشكالها المختلفة وخائفين من الانخراط فى المجتمع.

مشكلة حقيقية نلمس آثارها السيئة على رابطة المجتمع وتكامل عناصره.

فهل تلك الدعاوى صائبة؟

وهل فلسفة الانعزال حقاً فلسفة صحيحة قادرة على تمهيد الطريق لتحصيل السعادة؟

وهل الإنسان قادر على إقامة حياته بمعزل عن الناس؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حتى نجيب على تلك الأسئلة ونفهم فلسفة الانعزال بشكل صحيح قبل الحكم على مدى صحتها من خطئها سنضطر للإجابة أولاً عن التساؤلات التالية:

ممّ يتكون الإنسان؟

يمكننا باستخدام حواسنا إثبات أن للإنسان جسداً، فجميعنا نرى أجسادنا تتحرك على الأرض، فلا مشكلة فى هذا المكون، ولكن هل نحن أجساد فقط؟
خواص المادة –الناشئ منها الجسد- التى نعرفها لا يمكنها تفسير عملية التفكير والفهم مثلاً، ولا تفسر نزوع الإنسان لأفعال أخلاقية لا علاقة لها بشىء نافع للجسد، وانغماس الإنسان فى سد احتياجات جسده لا تحقق له الراحة والسعادة، فحتماً هناك مكون آخر ليس بمادة.

ما الذى يثبت وجود جانب معنوى كأحد مكونات الإنسان؟

الدليل الأول: بالملاحظة نجد أن الجسد مادة، والإنسان قادر على التفكير وفهم المعانى والمدلولات والمفاهيم، وبما أن المعانى والمدلولات والمفاهيم ليست مادة فلا بد من وجود مكون آخر له طبيعة غير مادية حتى تتمكن من الأداء غير المادي.

الدليل الثاني: عندما نستخدم قطعة صلصال لتشكيل هيكل ما، وأردنا تشكيل هيكل آخر فلا بد من هدم الشكل الأول أو إلحاق تعديلات به حتى نصنع الهيكل الثاني، فلا يمكن لنفس قطعة الصلصال أن تكون شكلين مختلفين فى نفس الوقت، وهذا طبيعى لأن الجسم المادى لا يمكنه حمل صورتين مختلفتين فى آن واحد.

وفى المقابل يقول ابن مسكويه : “ونحن نجد أنفسنا تقبل صور الأشياء كلها على اختلافها من المحسوسات والمعقولات على التمام والكمال من غير مفارقة للأولى ولا معاقبة ولا زوال”[1] أى عقولنا تستطيع إدراك صور وأشكال ومفاهيم مختلفة فى آن واحد ولا يتطلب إدراك مفهوم جديد أن يزول ما نفهمه سابقاً ونعيه بالفعل حالياً.

وهذا يفسر تراكم المفاهيم وقدرة الإنسان على التعلم واكتساب الخبرات ولا ريب فيه.

الدليل الثالث: تشوقنا لـ اللذات المعنوية دليل على وجود روح معنوية، فإننا مثلا نتشوق إلى المعرفة والعلم والأخلاق والمثل العليا وليس فقط إلى ما يملأ بطوننا وراحة أجسادنا. ويدلل ابن مسكويه فيقول: “إن تشوقها إلى ما ليس من طباع البدن وحرصها على معرفة حقائق الأمور الإلهية وميلها إلى الأمور التى هى أفضل من الأمور الجسمية وإيثارها لها وانصرافها عن الأمور واللذات الجسمانية يدلنا دلالة واضحة أنها من جوهر أعلى وأكرم جداً من الأمور الجسمانية، لأنه لا يمكن فى شىء من الأشياء أن يتشوق ما ليس من طباعه وطبيعته “[2].

والأدلة تتعدد فى ذلك الأمر ولكن يكفينا ذلك.

ما الدليل على نزوع الإنسان نحو كماله؟

وفقاً لما سبق فمكونات الإنسان هى جانب مادى وآخر معنوى، ونجده منذ نعومة أظافره وهو يسعى لسد احتياجات كلا الجانبين، فهو لا يكاد يخرج من رحم أمه إلى الحياة إلا ويبكى معلناً احتياجه للأمان والطعام والحنان، ثم لا يلبث أن يتم سنته الأولى حتى يحاول جاهداً الحبو ثم المشى بعد محاولات مستمرة نابعة من فطرته ودون إجبار من الأهل.

وتتوالى السنوات وتزهو فيها رغبته فى الاستكشاف والفهم ثم الاستقلال عن أهله والاعتماد على نفسه فى تلبية احتياجاته بشكل مستمر.

فالإنسان دائماً فى حالة حركة، سواء حركة جسدية فى السعى أو ذهنية فى التفكير، وحتى ساعات النوم والسكون تعتبر خطوة فى سلسلة من خطوات سعيه نحو كماله.

وقد يقول البعض -مشككًا فيما سبق- أن هناك أفراداً تتخذ للكسل عنواناً لحياتها ولا ترهق حتى ذهنها فى التفكير، صحيح لا ننكر ذلك ولكن هؤلاء نماذج تظن أن فى هذا المسلك الواهن كمالهم، أى أنهم ساعين أيضاً ولكن السعى أعرج وضال، ولا يهدم ذلك ما نحاول إثباته.

كما أن الإنسان عندما يسعى لأهداف وأمنيات إنما هو فى الأصل يسعى لسعادته، ويتخذ تلك الأهداف والأمنيات سبيلاً لها، فهو فى الأصل باحث عن السعادة ومفطور على ذلك.

هل الإنسان قادر على الاكتفاء التام بذاته؟

بما أنه باحث عن السعادة، فهو فى سعى دائم لتلبية احتياجاته الجسدية والمعنوية.

احتياجات الجسد تتمثل فى كل ما يبنى الجسد وينعشه ويجدد طاقته من مأكل ومشرب وراحة وزواج …

احتياجات الروح المعنوية تتمثل فى معرفة وأخلاق طيبة.

فهل الإنسان الواحد قادر على تلبية احتياجات جسده وروحه بمفرده؟ دعونا نحلل لنجيب.

الأكل يحتاج زراعة للحصول على الخضراوات والفاكهة، ويحتاج إلى تربية الحيوانات الصالحة للأكل أو صيد الأسماك أو صناعة الخبز ومنتجات الألبان وغيرها، والماء يحتاج تنقية وتحتاج لمعدات حتى تصل إلى أماكن أبعد من الأنهار والبحار، والملبس يحتاج إلى أقمشة تصلح لستر الجسد بجميع أجزائه، ولا ننسى الحاجة للطب لعلاج الأمراض المحتمل أن يصيب بها جسده وإلى الأدوية المناسبة للمرض.

أما الزواج فيحتاج إلى شريك لإقامة أسرة تؤنسه ويُحقق من خلالها دوره وليحافظ على استمرار نوعه، والمأوى يحتاج إلى بناء وإعداد وإصلاح إن تتطلب الأمر.

المعرفة تحتاج إما التعلم من أفراد أو قراءة كتب، أو مشاركة الأفكار والمعارف الصغيرة لبناء علوم أكثر دقة وتعقيد، والأخلاق الطيبة تحتاج لأطراف أخرى يتم من خلالهم ممارستها حتى تتحقق وترسخ فى النفس وترقى بها، أو لينتزع الفرد من نفسه خلق سيئا.

فلا نستطيع أن نتخيل أن الفرد وحده قادر على السعى للزراعة وتوفير المشرب والملبس والمأوى وتعلم علوم الطب والهندسة والتربية والمنطق كلها وحده، ولا يمكنه تطبيق ما تعلمه وحده، ولا يمكنه الزواج وحده ولا الارتقاء أخلاقياً أو معرفياً وحده، فكيف له أن يكتفى بذاته؟ – لا يستطيع.

مما سبق نجمله فى الآتى:  – للإنسان جانب مادى وجانب معنوى.

– الإنسان باحث عن السعادة والتكامل عن طريق تلبية احتياجاته المادية والمعنوية.

– من المستحيل سد احتياجات كلا الجانبين دون الآخر.

فيمكننا إثبات أن الإنسان لا يمكن أن تستقيم حياته بمعزل عن الناس، ومهما علت قدرات ومهارات الفرد الواحد فهى ما زالت فى حيز النقصان، عاجزة عن تحقيق الاكتفاء التام للنفس، فهو لا محالة يحتاج لغيره ويحتاج إلى الاجتماع ليحقق تكامله وسعادته.

إذاً فلسفة الانعزال التام فلسفة واهنة فى تفسير السبيل الأمثل لسعادة الإنسان، وما نجده من مشكلات فى التعامل مع الآخرين -والذى يعتبر من أهم دوافع إنشاء هذه الفلسفة الواهنة- هى تحديات تنبهنا لضرورة الاجتهاد لفهم أعمق وصحيح نستطيع من خلاله تحقيق السعى المنضبط للاجتماع السليم والمؤدى للسعادة.

————-

[1]، [2] كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق – ابن مسكويه

اقرأ أيضاً:

التنين بين الظن واليقين .. هل الظن وحده يكفي؟

رحلة البحث عن الحقيقة

حاكمية العقل

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة