ما ذكرناه كله في الجزأين السابقين كان هدفه إرساء مبدأ أساسي: لا تثق بالأشخاص الذين يعتقدون أنهم وصلوا إلى نهاية الزمن، أو إلى ذروته، أو أنهم موجودون خارجه، لا تصدق أبدًا أي شخص يعتقد أنه ينظر إلى العالم من خارج العالم، أو إلى التاريخ من خارج التاريخ.
سيكون من المبالغة الإشارة إلى أن العلماء والمهندسين الذين كانوا وراء عقد مؤتمر دارتموث (Dartmouth Conference) سنة 1956 بخصوص الذكاء الاصطناعي– اعتقدوا أنهم قادرون بسرعة على إنشاء عقل افتراضي بخصائص تشبه خصائص الإنسان، أو على الأقل ليس بالقدر الذي قد تظنه من المبالغة. لقد اعتقد واضعو الورقة التي دعت إلى عقد المؤتمر أن «دراسة لمدة شهرين من عشرة أشخاص» يمكن أن تؤدي إلى «تقدم كبير» في مجالات مثل حل المشكلات، التفكير المجرد، استخدام اللغة، تحسين اتخاذ القرار. وبالتعمق أكثر في تلك الوثيقة والبحث في المؤتمر، ستدهشك روح التفاؤل والثقة التي سادت مؤكدةً أن هذه في نهاية المطاف مشكلات عادية، إن لم تكن سهلة. لقد اعتقدوا حقًا أن الذكاء الاصطناعي يمكن تحقيقه في عصر لا تزال فيه عديدٌ من مهام الحوسبة تنفذها آلات تستخدم البطاقات الورقية المثقوبة لتخزين البيانات!
لإعطائك فكرة عن حالة الحوسبة في ذلك الوقت، شهد ذلك العام إطلاق جهاز «بنديكس جي–15» (Bendix G–15) المؤثر، وهو أحد أوائل أجهزة الحاسوب الشخصية. استخدم «بنديكس» خراطيش شريطية (Tape Cartridges) يمكن أن تحتوي على نحو 10 كيلو بايت من الذاكرة، أو 1.5625 × 10–7 (مساحة توازي سعة أصغر جهاز آيفون في السوق اليوم). أما الحاسوب العملاق «مانشستر أطلس» (Manchester Atlas) فلم يكن متاحًا تجاريًا لمدة ست سنوات أخرى. وعند صدوره سنة 1962، قيل إن الأطلس الأول يضم نصف قوة الحوسبة في المملكة المتحدة بأكملها، إذ استمتع مستخدموه بما يعادل 96 كيلو بايت من ذاكرة الوصول العشوائي (RAM) (أقل من بعض المصابيح التي يمكنك شراؤها من إيكيا IKEA)!
غني عن القول أن هذه القضايا تطلبت في نهاية المطاف قوة حاسوبية أكبر مما كانت متاحة في تلك الحقبة، بالإضافة إلى الوقت والمال والقوى العاملة. في العقود السبعة التي تلت ذلك المؤتمر، كان تاريخ الذكاء الاصطناعي إلى حد كبير تاريخًا مليئًا بالآمال الزائفة والتقدم الذي بدا قريبًا على نحو مثير لكنه دائمًا ما ابتعد عن قبضة علماء الكمبيوتر الذين سعوا إليه. كانت النكتة القديمة، التي حدَّثت نفسها مع مرور السنين، أن الذكاء الاصطناعي ما زال بعيدًا لمدة عشر سنوات، لمدة عشرين سنة، ثم ثلاثين، ثم أربعين، إلخ.
ماذا إذًا عن الذكاء الاصطناعي الآن؟ لسنا في حاجة إلى القول أننا نشهد بالفعل نهضةً قوية للذكاء الاصطناعي، ففي العامين الماضيين على الأقل كُشِف عن عدد كبير من الأنظمة القوية التي استحوذت على خيال الجمهور، لا سيما نماذج اللغات الكبيرة مثل جي بي تي–3 (GPT–3)، وجي بي تي–4 (GPT–4)، التابعين لشركة أوبن إيه آي (Open AI)، ومولدات الصور الآلية مثل دال– إي (Dall–E) وميدجورني (Midjourney)، ومحركات بحث الويب المتقدمة مثل بينج (Bing) التابع لشركة ميكروسوفت (Microsoft)، وعديد من الأنظمة الأخرى التي لا تزال استخداماتها النهائية غير واضحة، مثل روبوت الدردشة بارد (Bard حاليًا جيميناي Gemini)، الذي صممته جوجل استنادًا إلى نموذج اللغة التحاوري لامادا (LaMDA). لقد أسعدت هذه الإنجازات الهندسية الرائعة ملايين المستخدمين، وأثارت موجة عارمة من التعليقات التي تنافس أبرز الأحداث السياسية في كتلة هائلة من الرأي! وكما كان الحال في العصر الفيكتوري، يبدو أن الجميع تقريبًا على يقين من حدوث شيء تاريخي. ويكفي أن نقول إن تصريح الرئيس التنفيذي لشركة جوجل ساندر بيتشاي (Sundar Pichai) بأن «التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي سيكون أكثر عمقًا وتأثيرًا من اكتشاف النار أو الكهرباء»– لم يكن استثنائيا على الإطلاق. وقد لخص المحرر السياسي بصحيفة نيويورك تايمز روس دوثات (Ross Douthat) التفكير الجديد بقوله «إن ثورة الذكاء الاصطناعي تمثل قطيعة جوهرية مع علم التنوير (Enlightenment science)، وهو ما يعني بالطبع قطيعة جوهرية مع الواقع الذي يصفه علم التنوير. ويبدو، إلى حد ما، أن المتحمسين للذكاء الاصطناعي يريدون أن تكون توقعاتهم للذكاء الاصطناعي علمًا وخيالًا في الوقت ذاته!».
في خلفية هذه الضجة، كانت هناك همهمة هادئة مفادها أن هذه اللحظة ربما لا تغير العالم كما يتصور معظم الناس، ذلك أن الشك في الذكاء الاصطناعي قديم قدم السعي وراء الذكاء الاصطناعي. لقد أصر النقاد مثل عالم الحاسوب والإدراك دوجلاس هوفستادتر (Douglas Hofstadter)، والفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي (Noam Chomsky)، والمبرمج والكاتب التقني بيتر كاسان (Peter Kassan) بشدة لسنوات على أن الأساليب التي كان وما زال يتبعها معظم علماء الحاسوب في السعي وراء الذكاء الاصطناعي معيبة أساسًا. يميل هؤلاء النقاد إلى التركيز على الفجوة بين ما نعرفه عن الكائنات التي تفكر، لا سيما البشر، وما نعرفه عن كيفية حدوث هذا التفكير، والعمليات التي تكمن وراء الأنظمة الحديثة الشبيهة بالذكاء الاصطناعي.
إحدى القضايا الرئيسة أن نماذج الذكاء الاصطناعي التي طُوِّرت اليوم معظمها أو كلها تعتمد على النهج الأساسي ذاته، أعني التعلم الآلي (Machine Learning) والشبكات العصبية (Neural Networks)، التي لا تشبه عقولنا. ما نعرفه أن هذه هي نماذج لغة الآلة التي تستفيد من جمع كميات ضخمة من المعلومات لتطوير نماذج داخلية ذاتية التطوير على نحو متكرر، يمكنها استخلاص إجابات للمطالبات التي من المحتمل إحصائيًا أن تلبيها. ويشير«دي بوير» إلى أن مغزى مقولة «ما نعرفه» هنا يتمثل في أن الخوارزميات والعمليات الفعلية التي تجعل هذه النماذج تعمل ما زالت أسرارًا صناعية تخضع لحراسة مشددة. لقد اتضح أن أوبن إيه آي (OpenAI) ليست مفتوحة كما يُوحي الاسم، بل طُوِّرت –وفقًا لما تشير إليه أفضل المعلومات– بالتنقيب في مجموعات بيانات ضخمة لا يمكن فهمها، وتقييم تلك البيانات عن طريق مجموعات من البارامترات (Parameters) التي هي أيضًا أكبر مما يستطيع المرء تخيله، ثم تطوير الاستجابات خوارزميًا، ومن ثم، فهذه الأنظمة ليست في الحقيقة مستودعات للمعلومات (Repositories of Information)، إنها مولدات استجابة ذاتية التكرار (Self–Iterating Response–Generators)، تتعلم، بطريقتها الخاصة من مستودعات المعلومات.
الأهم من ذلك، أن هذه النماذج غير خاضعة للرقابة، فهي ليست في حاجة إلى إنسان لتشفير البيانات التي تستقبلها، مما يجعلها أكثر مرونة وربما أكثر قوة من الأنظمة القديمة. لكن مُخرجاتها، في الأساس، ليست نتاج عملية متعمدة من التفكير التدريجي مثلما هو الحال لدى الإنسان، بل بقايا من التجربة والخطأ (Trial and Error)، والتصحيح الذاتي (Self–Correction)، والاستجابة التنبؤية (Predictive Response).
إذا كنت تستخدم مُنشئ الموسيقى المدعم بالذكاء الاصطناعي ميوزك إل إم (MusicLM) (من إنتاج جوجل) لإنشاء موسيقى إلكترونية راقصة (تكنو Techno)، فستحصل بالفعل على موسيقى تبدو كأنها «تكنو» مبهجة. لكن ما يُعيده النظام إليك لا يبدو محض نوع مُحدد من «تكنو» في الفهم البشري، بل يبدو مثل أنواع «التكنو» كلها، فمن عملية معقدة لا يمكن فهمها، ينتج النظام شيئًا مثل إجمالي –أو متوسط– موسيقى التكنو الموجودة، أو على الأقل عينة هائلة منها، وهذا يُشبه بطبيعة الحال معظم تعريفات موسيقى «التكنو». المشكلة، من بين أمور أخرى، أنه لا يمكن لأي إنسان أن يستمع إلى قدر كبير من الموسيقى التي من المحتمل تغذيتها في أنظمة الذكاء الاصطناعي الرئيسة لإنتاج الموسيقى، مما يثير التساؤل بخصوص مدى تشابه هذه العملية مع كتابة الأغاني البشرية (الإبداعية). وليس من الواضح ما إذا كان من الممكن إنتاج شيء جديد حقًا بهذه الطريقة، ففي نهاية المطاف، يبدأ الإبداع الحقيقي على وجه التحديد حيث ينتهي التأثير!
يتبع…
مقالات ذات صلة:
الأبعاد المنطقية للذكاء الاصطناعي
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا