لقد رحل أعز أصدقائي، والآن أشعر بالفراغ، هل سأتجاوز هذا الشعور؟
وصف الفراغ
انتابني شعور بالمبالغة عندما قرأت إحدى الكتابات لأحد الكُتّاب الذين أعتز بهم، في وصفه لذلك الفراغ الذي يتركه الراحلون عن حياتنا سواءً كان الفراغ بسبب رحيل أُم أو حبيبة أو صديق، شعرت بغلبة العاطفة على العقل في وصفه ذاك، ففراغ الأم لا تملؤه الحبيبة وفراغ الحبيبة لا يملؤه صديق أو حبيبة أخرى وفراغ الصديق لا يملؤه صديق آخر حيث يبقى الفراغ قائمًا إلى أن نغادر الحياة، هكذا عرض الكاتب رأيه وشبّه الرأي بالألوان فإذا رحل الأحمر قد يُهوّنْ علينا اللون الأخضر ولكنه مهما كان الأخضر مخلصًا فلن يصبح أحمرًا في يوم من الأيام.
إن مثال الألوان هذا ذكرني بألوان الطيف، ماذا لو كانت حياتك بها كيان يمثل ألوان الطيف؟! بالتأكيد لن نشعر بالفراغ إذا رحل أي كيان آخر سواء كان أحمرًا أو أخضرًا، فألوان الطيف تغنينا عن باقي الألوان لأنها كل الألوان.
وبنظرة منطقية يتكلم علم المنطق عن المفهوم الكلي والمصاديق الجزئية التي تطابقه، فالمفهوم الكلي للإنسان مثلاً “كجسم نامٍ حساس متحرك بالإرادة ناطق لديه القدرة على التفكير” ينطبق على مليارات البشر في العالم كمصاديق جزئية له، فأنا وأنتم مصاديق للإنسان مثل الخيار والطماطم مصاديق للنبات مثلاً، وإن توفْاني الله أو توفَّى أي مصداق بشري فسيظل مفهوم الإنسان قائمًا كما عرّفناه.
وبالمثل نجد الحب، الإخلاص، الوفاء، المؤاخاة وغيرها من المعاني وحتى الحيوان وأطباق الطعام وغيرها من المحسوسات لهم مفهوم كلي ومصاديق تمثل هذا المفهوم فإن رحل مصداق أو أكثر سيظل المفهوم قائمًا في المصاديق الأخرى.
هل نحن من نصنع الفراغ ؟
بالتأكيد رحيل أي إنسان مُقرب أمر قاسي، أمر يسبب الألم، وربما الفراغ أيضًا، ولكن نحن من نصنع هذا الفراغ وليس الوجود، ربما لأن معارفنا ضيقة لا تتسع للكثير من الآخرين، أو لأننا سيئون لدرجة تجعل المخلصين لنا فقط هم من يحبوننا بالفطرة كوالدينا وكفى، أو لأننا بعيدون عن مصدر ومنبع المعاني التي فقدناها برحيل مصاديقها عنّا وسنتكلم عن المنبع في الجزء الأخير من المقال.
في حياتك قد تجد الأب مصداقًا للنصح والأم مصداقًا للعطاء والزوجة مصداقًا للحب والصديق مصداقًا للمؤاخاة وصديقًا آخر مصداقًا للوفاء وهكذا، ولكننا نُخطئ عندما نعتقد أن تلك المعاني تقف عند حدود دائرتنا الضيقة أو بمعنى آخر نُخطئ عندما نتصور أن تلك المصاديق البشرية للمعاني هي مصدر المعاني، لقد قرأت حكاية على أحد مواقع التواصل الاجتماعي عن بنت توفت أمها ولم يمر الكثير من الأيام حتى توفى والدها وفقدت مصدر رزقها مع رحيله وقبل كل ذلك فقدت أخيها حين قرر الهجرة ولا سبيل لعودته في ذلك الحين.
حيث القوانين لا تسمح بذلك، إنها فقدت كل معاني الحب والأمان والعطاء وفقدت معنى الكرامة الذي استبدل بشعور أنها “عالة” على من ينفق عليها في سبيل الله، فإذا بالفارس راكب الحصان الأبيض جاء ليتزوجها ويكون لها مصداقًا لما فقدته، فالمعاني لا تموت والفراغ حتمًا يجد من يشغله.
الكلاشيهات المكررة
والمصداق ليس مصدر المعنى فكم من صديق رفيق ثم ابتعد، وزوجة وفية ثم خانت، كم من أب حنون ثم قسى، أكثر البشر يتغيرون، وإن ظننا أنهم مصدر المعاني في حياتنا سنيأس إذا رحلوا أو تغيروا وسنكتئب وسنفقد الأمل وربما ننتحر! إن هذه الفكرة التي تسيطر على حياة الكثيرين ومن ثم يصنعون منها “كليشيهات” أصبحت مسخًا بما يكفى، فجُمل مثل “عمري ما هحب بعدك” أو “لو ما تجوزتهوش هموِّت نفسي” هي انعكاس لفكرة “المصداق يمثل مصدر المعنى”.
بالتأكيد يحتاج الرجل لامرأة والعكس، هذه فطرة الخلق، ولكن للرجل مفهومًا كليًّا وللأنثى مفهومًا كليًّا، ومن يقرر أن يتزوج يجب أن يضع معاييرًا كلية كُحسن الخلق والتدين ورجاحة العقل… إلخ، فالمعيار الكلي ينطبق على مصاديق كثيرة، فذاك الرجل أو تلك المرأة ليسوا المصدر لمعنى الذكورية أو الأنثوية.
النظرة العاقلة
وبنظرة فلسفية إذا تكلمنا عن هذه المفاهيم الكلية التي تصنع تفاصيل حياتنا وُتكّون شعورنا وتحرك أرواحنا، فكما لتلك المفاهيم مصاديق تمثلها، فإن لها مصدرًا نابعًا منها، هكذا يُحتم العقل البرهاني ببديهياته هذا الأمر، فإذا تأملنا أن لكل مفعول فاعل وفي استحالة تسلسل علل هذا المفعول دون علة أولى أي دون نقطة بداية، سنجد كما وجد فلاسفة المنهج العقلي أن كل الكمالات أو المفاهيم أو المعاني (سمِّها كما شئت) التي نبحث عنها لها مصدر واحد، الحب، العلم، الألفة، الأمان، الرضا، الطاقة، وغيرهم.
هذا المصدر الذي هو بالضرورة مُدرك ومطلق الكمالات لا ينقصه كمالًا لأنه بالبداهة مُحال أن يحتاج لغيره، فإن أردت المعاني وأردت أن تتكامل كُن مع الله فهو منبع المعاني وصاحب الكمال المُطلق، سلم أمرك له، أحِبه، نفذ أوامره وتلذذ بطاعته والقرب منه، فهو مصدر الأمان وهو خير ونيس، هو منبع الحب والرضا وهو الرزاق الذي سيعطيك المصاديق البشرية والمادية.
يقول إبراهيم الفقي “إذا كنت مع الله فأنت مع الأغلبية المطلقة” فكن مع الله تكن لك ألوان الطيف.
اقرأ أيضا:
لُب الزيتونة .. البحث عن السبب الجذري أفضل من معالجة الآثار الناتجة عنه
أزمة العدالة والخير و الشر.. ألن نتمتع بعالم خالٍ من الشرور ؟
لم أجد السعادة إلا في عيون البسطاء .. ما علاقة البساطة بالسعادة؟ وكيف نسعد؟
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.