غموض الحدود المكانية بين الفلسفة والجغرافيا .. الجزء الخامس
قراءتان للغموض
حين نقول إن إيفرست غامض، فإن هذه الجملة تحتمل قراءتين مختلفتين لتفسيرها: الأولى أن ننسب الصفة “غامض” إلى جبل إيفرست ذاته، إلى ذلك الكيان الفعلي الذي أطلقنا عليه هذا الاسم، ومن ثم فالغموض هنا يكتنف المشار إليه موضوعيًا بحيث يفتقد حقًا إلى الحدود الصارمة. أما القراءة الثانية فبها ننسب الصفة غامض إلى الاسم “إيفرست”، إلى التصور الذي يعكس معرفتنا الغائمة بحدود الجبل الحقيقية.
بعبارة أخرى يُعد الغموض وفقًا للقراءة الأولى غموضًا أنطولوجيًا مرتبطًا بالحالة الوجودية للشيء (de re)، فالمصطلح الغامض يكتسب صفة الغموض لأنه يشير في الواقع إلى موضوع غامض: موضوع تكون حدوده المكانية أو الزمانية غائمة، فليست هناك مثلًا واقعة موضوعية محددة حول ما إذا كانت الأحجار غير المتعينة تقع داخل الجبل المسمى “إيفرست” أو خارجه، والمعنى ذاته يمكن تطبيقه على الصحاري، والبحيرات، والجُزر، والأنهار، والغابات، والخلجان، والشوارع، والكيانات الجغرافية الأخرى كافة، فهذه جميعًا كيانات لها أسماء غامضة لأن الغموض يكتنفها في ذاتها، فليست لها صورة طوبولوجية معيارية بحيث يكون لكل منها حدٌ دقيق يفصل دواخلها عن خوارجها.
أما في القراءة الثانية فالغموض يُعد غموضًا سيمانطيقيًا مرتبطًا بالحالة التمثيلية للكلمة (de dicto)، ومن الطبيعي أن تحمل الكلمة الغامضة دلالة فكرية غائمة، تعكس عجز النموذج المعرفي للإنسان عن احتواء الواقع بكل تفاصيله وتحديداته الدقيقة، وهو أمرٌ تشهد به أنساقنا العلمية على اختلاف أنواعها وبلا استثناء.
الحق أن القراءة الأولى الأنطولوجية مرفوضة تمامًا من منظّري الغموض كافة، ذلك أنها تعني أساسًا رفض السعي إلى تجاوز الغموض باعتباره ظاهرة خارجة عن نطاق القدرات الإنسانية، وتعني من ثم وقف الحوار الجدلي بين الإنسان والطبيعة، وهو الحوار الذي أثمر حتى الآن تراكمات معرفية باتت متسارعة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا سلّمنا بكون الغموض سمة من سمات الأشياء في ذاتها، فكيف تسنى لنا –عبر تاريخ العلم– بسط سيطرتنا النسبية عليها؟ ألم يحملنا التطوير المطرد لأدواتنا البحثية إلى مزيد من الفهم لظواهر الكون وميكانيزماته؟ بل أليست كلمات مثل “الغموض” و”الوضوح” و”الدقة”، مجرد وحدات في البناء أو النسق اللغوي الذي هو مرآة لمعرفتنا بالعالم لا للعالم ذاته؟!
من جهة ثالثة يؤدي التمييز المقولي بين الحدود الحقيقية والحدود الموضوعة دورًا حاسمًا في تفضيل القراءة السيمانطيقية للغموض على القراءة الأنطولوجية، فالغالبية العظمى من الحدود التي نعرفها –على الأقل جغرافيًا–حدود موضوعة من الإنسان، ومن ثم فإن غموضها مرده بالضرورة لا إلى المناطق التي تفصل بينها تلك الحدود، وإنما إلى وجهات النظر الإنسانية حيالها، وإلى عدم وجود معيار ثابت ومقبول كلية لتعيينها، وإذا كان الناس يتصارعون ويشعلون الحروب على حدود من أنواع مختلفة، فليس ذلك في الحقيقة بسبب حدّ غامض في ذاته، وإنما لأن هناك عدم اتفاق على الموضع الدقيق للحدّ، وبسبب تعسفية وجهات نظر معينة إزاء الحدّ المزعوم.
من المعقول إذًا التسليم بأن غموض الجغرافيا غموض سيمانطيقي خالص، غموض يقع في نسق التمثيل (Representation)؛ لغتنا وأجهزتنا التصورية، لا في الكيان الممثل، وحين نقول أن المشار إليه بمصطلح جغرافي ما ليس مميزًا على نحوٍ قاطع، فإنما نعني أن المصطلح المذكور يُعيّن موضوعًا ما على نحوٍ غامض، لا أنه يُعيّن موضوعًا غامضًا. وبالمثل، حين نتحدث عن “إيفرست”، فإنما نتحدث بغموض لأن هناك طرقًا عديدة ومختلفة لتصور التخوم الجغرافية لجبل إيفرست، وجميعها ملائمة تمامًا لطريقة استخدام الاسم في ظروف الأحوال العادية.
الخلاصة
الجغرافيا علم المكان، ليس فحسب المكان المجرد الذي تتناوله الرياضيات البحتة بالبحث، لكن أيضًا المكان الذي يحيا فيه الإنسان، ويتفاعل فيه مع غيره من البشر فيبني حضارته ويكتسب هويته، المكان الذي يجادل فيه الطبيعة دومًا، فينزع عنه سكونه ويضفي عليه سمة الحركة والتطور، ليخط عليه وبه ومعه سطور تاريخه النوعي الخاص. تلك مقولة يؤكدها التنوع الأنطولوجي الكثيف لموضوعات البحث الجغرافي: القارات والدول والمدن والأحياء، إلى جانب الجبال والأنهار والغابات والصحاري، أجزاء الأرض اليابسة إلى جانب فجواتها المائية، ممارسات الإنسان الزراعية والصناعية إلى جانب المناخ البيئي ومعدلات سقوط المطر، السمات التوبوجرافية الطبيعية –مثل الخلجان والوديان والبرازخ– بالإضافة إلى آثار النشاط الإنتاجي للبشر، مثل الخزانات والجسور والطرق والسكك الحديدية والمعابر الجبلية، الكيانات السياسية إلى جانب الكثافات السكانية وتوزيعاتها، إلخ.
هذا التنوع الأنطولوجي الظاهر يمثل بلا شك ميدانًا خصبًا ومثاليًا للبحث الفلسفي، صيدًا ثمينًا لأي فيلسوف يرغب في إثراء مخزونه الخاص من الأمثلة ودراسات الحالة. وقد ركزنا في هذا المقال على مشكلة جغرافية نوعية أثارت فضول الفلاسفة وتأملاتهم طويلًا، بل هي –فيما نزعم– المشكلة المركزية للبحث الجغرافي على اختلاف مجالاته، أعني مشكلة الحدود، فما من موضوع أو تصور جغرافي إلا وله حدود تخصه، ولو على سبيل الفرض. وإذا كانت هذه المشكلة –بما تثيره من ألغاز– تلقي بظلالها على موضوعات العلوم الأخرى وتصوراتها كافة، فإنها في حالة الجغرافيا أشد خطورة وأكثر أهمية، لأن الحدود التي تتعامل معها الجغرافيا في حقيقتها حدود مفروضة من الإنسان، وهو ما تشهد به نظرة سريعة في أية خريطة جغرافية، إذ تبرز أمامنا كثرة من الاعتبارات السياسية والثقافية، وربما الدينية، التي تُرسَم الحدود وفقًا لها.
إن الطبيعة لا تعرف حدودًا مكانية بين البشر، وقد لا تعرف أيضًا حدودًا فاصلة بين عديد من موضوعاتها المكانية، تمامًا كالطفل حين يولد فلا يعرف حدودًا مانعة لأفعاله وتوجهاته، التي لا تلبث الممارسات الاجتماعية والمعرفية أن تفرضها عليه فرضًا. ولقد اعتمدنا على هذا الفهم للحدود الجغرافية –أعني كونها حدودًا مفروضة– في طرح إحدى المحاولات الفلسفية لمعالجتها، لكن الفهم الأشمل والأبعد لطبيعة المشكلة وسبل حلها، يستلزم تدخل عديد من العلوم –إلى جانب المنطق والسيمانطيقا– لا سيما علوم النفس والتاريخ والسياسة والأخلاق، الأمر الذي يؤكد ضرورة البحث عن الوحدة المفقودة بين العلوم المختلفة، في عالمٍ يموج بدعاوى الانفصال والتميز حتى على صعيد المعرفة الإنسانية!
بقي أن نشير إلى أن بحثنا هذا لم يكن سوى محاولة لتقريب المحاور البحثية بين الجغرافيا والفلسفة بعد فترة من الجفاء التصوري والمفاهيمي ربما تمتد إلى الفكر اليوناني القديم. وإذا كانت الجغرافيا بموضوعاتها ومقولاتها المختلفة والمتنوعة تمثل مجالًا خصبًا ومعينًا لا ينضب للبحث الفلسفي على اختلاف أبعاده، فإن حاجة الجغرافيا إلى الفلسفة تتجلى بلا شك في أكثر من بعد من أبعاد البحث الجغرافي، ليس فقط على مستوى التحليل المنطقي للغة الجغرافيا، لكن أيضًا على مستوى التطوير الإبستمولوجي والميثودولوجي للعلم الجغرافي بأكمله، وكذلك على مستوى السعي للتحرر من التوجهات اللا عقلانية للمجتمع المعاصر.
ربما كان الغرب أسرع استجابة لتحقيق مطلب التلاقح بين المجالين وتدعيم أواصر القربى بينهما، بعد أن أيقن باحثوه بخطورة المردودات السلبية لتباعدهما، وهو ما تجلى مثلًا في قيام الجمعية الدولية للفلسفة والجغرافيا خلال العقد الأخير من القرن العشرين، لكنا لا نعدم من بين باحثينا العرب –لا سيما في المجال الجغرافي– من تنبه إلى أهمية هذا المطلب منذ سنوات، فكانت أقوالهم ونداءاتهم –التي تنتظر التطبيق– دليلًا حيًا على الوعي بمطالب العلم المنهجية وحاجاته التأملية. ولعل هذه الأقوال خير ما نختم به بحثنا، فإليك بعضها:
- “الجغرافيا علم لا يمكن أن يعيش أو يتطور بمعزل عن التيارات الفكرية، سواء ما كان منها فلسفيًا أو منهجيًا، والتي تتأثر وتؤثر في بقية العلوم. وأي تقدم تحرزه العلوم الطبيعية والاجتماعية لا بد أن نجد له صدى في الحقل الجغرافي، وأي تغير في فلسفة العلم ومناهجه ووسائل بحثه لا بد أن يلازمه تغير في فلسفة الجغرافيا ومناهج بحثها ووسائل هذا البحث”.
- “لقد أدى الانفتاح على فلسفة العلوم ومنهجيتها والتطورات التي صاحبت ذلك إلى إبراز الجانب الحيوي في الجغرافيا ولقدرته كعلم على التطور والتكيف مع الاتجاهات الجديدة، ونقد بعض الاتجاهات السابقة دون إلغائها نهائيًا من التفكير العلمي الجغرافي”.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا