مقالات

غموض الحدود المكانية بين الفلسفة والجغرافيا .. الجزء الرابع

شمولية الغموض

يفترض التعريف الأرسطي للحدّ –وكذلك التوبولوجيا– أن ثمة تمييزًا واضحًا بين ما يقع داخل شيء ما وما يقع خارجه، مع أن قليلًا من التأمل يكشف عن كثرة من الموضوعات والحوادث والتصورات ذات الحدود الغائمة (Fuzzy boundaries) أو غير الواضحة، إن السحب، والجبال، والصحاري –على سبيل المثال– موضوعات غائمة الحدود، كذلك الحال في الحوادث التاريخية –مثل عصر النهضة (Renaissance)، والثورة الصناعية (Industrial revolution) والحرب العالمية الثانية، إلخ– فهذه جميعًا مجموعات فرعية لمتسلسلة الحوادث التي صنعت التاريخ العالمي، لكن مداها المكاني، وكذلك حدودها الزمانية الابتدائية والنهائية، غير محددة بدقة.

فإذا ما انتقلنا إلى مجال التصورات وجدنا الغموض يُغلّف حدود معظم محمولاتنا اللغوية، مثل “أصلع”، “طويل”، “أحمر”، إلخ، فما هو الحدّ الفاصل مثلًا بين الأصلع وغير الأصلع، أو بين الطويل والقصير، أو بين الأحمر وأقرب الألوان إليه؟ كل هذه التساؤلات وأمثالها لا تجد إجابات واضحة، بل ومن شأنها أن تثير مفارقات منطقية شديدة المراس.

أو خذ مثلًا مشكلة العلاقة بين العقل والجسد (الأثيرة فلسفيًا وعلميًا)، فقد نتساءل منها عما إذا كان (س) من الناس في هوية مع جسده، لكن ما هو بدقة ذلك الجسد؟ إنه بالتأكيد يشمل قلب (س)، وهو بالتأكيد أيضًا لا يشمل عقله. لكن ماذا عن الزيتونة التي أكلها توًا؟ هل هي جزء من (س)؟ هل سوف تكون فقط جزءًا منه بعد أن يكون قد بلعها وهضمها؟ وهل امتزجت إذن هوية الزيتونة بهوية (س)؟

غموض الجغرافيا

الغموض إذًا ظاهرة عامة تشمل الفكر واللغة الإنسانيين في مجملهما، وما هو من الفكر واللغة الجغرافيين ببعيد، فليس هناك مثلًا حدّ دقيق بين ما يمكن أن ندعوه بالجبل (Mountain) وما يمكن أن ندعوه بالتّل (Hill)، وإلا ما الحدّ الفاصل بين “أقصر جبل” و”أعلى تّل”؟ لا نجد إجابة واضحة عن هذا السؤال حتى لو لجأنا إلى قواميس اللغة لكشف المدلول اللفظي للكلمات، فالجبل بالتعريف: “ما علا من سطح الأرض واستطال وجاوز التّل ارتفاعًا”، في حين أن التّل: “ما ارتفع من الأرض عما حوله وكان دون الجبل!

قد يمكننا بالطبع تجاوز هذا الغموض بالاتفاق على مقياس معين للارتفاع لا ينبغي أن يقل عنه ما نسميه جبلًا، مثلما فعلت الجمعية الجيولوجية البريطانية (British Geological Society) التي وضعت حدًا أدنى للجبل مقداره 2000 قدم، لكن التواضع على قدرٍ معين من الارتفاع لا يميز الجبل في الحقيقة عما عداه من بنى قد تبلغ الارتفاع ذاته، فالمسلة (Obelisk) المرتفعة 2000 قدم مثلًا ليست جبلًا! هذا فضلًا عن صعوبة التحديد الرياضي الدقيق للقيمة المقترحة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

خذ مثالًا آخر: في دراسته للطبيعة الجغرافية لموطنه، توصل الجغرافي الفنلندي “تاباني سارجاكوسكي” (Tapani Sarjakoski) إلى أن فنلندا تحوي بالضبط 187.888 بحيرة، 179.584 جزيرة، و647 نهرًا. ولا شك أنه إنجازٌ جديرٌ بالتقدير، لكن هذا الإحصاء الحسابي يعتمد على تعريفات تواضعية يجدها الجغرافيون أنفسهم إشكالية، مثل تعريف البحيرة مثلًا بأنها “جسم مائي ذو مساحة حدها الأدنى 0.05 هكتار” (أي 500 م2، إذ يساوي الهكتار 10000 متر مربع)، وهو تعريف يثير تساؤلات من قبيل: ماذا عن مجموعة البرك (Ponds) الصغيرة خلال ذلك المستنقع (Marsh) الذي قد يتجمد في الشتاء ويجف في الصيف؟ ماذا عن البحيرات الموسمية (Seasonal lakes) الناتجة عن انصهار الجليد؟ وماذا عن البحيرات التي توجد وتختفي نتيجة بناء السدود (Dams) أو هدمها، وكذلك خزانات المياه (Reservoirs)، والحواجز من مختلف الأنواع المستخدمة لأغراض التصنيف الصناعي؟

كما ذكرنا فإن هذا النوع من الغموض التصوري سمة عامة تشترك فيها الجغرافيا مع كافة العلوم الأخرى، بما في ذلك العلوم الطبيعية مثل الفيزياء والكيمياء وغيرها، لكن غموض الجغرافيا أكثر شمولًا وأشدّ خطورة، إذ هو لا يؤثر فقط في البناءات المقولية التي يصف بها الجغرافيون عالمنا، وإنما يؤثر أيضًا في تناولهم لمعظم الموضوعات الفردية التي يفترضون وضوحها بداهًة، كأن يقولوا مثلًا أن النيل أطول نهر، أو أن طوكيو (Tokyo) أكبر مدينة، أو أن إيفرست (Everest) أعلى جبل، إلخ، فهذه الأقوال جميعًا تتحدث عن موضوعات غائمة الحدود، ولكل منها “منطقة معنى” تفتقد إلى التحديد الدقيق، فليست لدينا –على سبيل المثال– قائمة مقارنة دقيقة لمدن العالم الأكثر ازدحامًا بالسكان، والسبب في ذلك تعدد المعايير التي يمكن أن نستخدمها لتحديد هوية التكتلات الحضرية (Urban agglomeration) المختلفة، فإذا اتفقنا مثلًا على إدراج يوكوهاما (Yokohama) وكاواساكي (Kawasaki)، فإن طوكيو بلا شك أكبر مدينة آهلة بالسكان في العالم. وبخلاف ذلك فربما تأتي أولًا سول (Seoul)، أو مكسيكو سيتي (Mexico City)، أو نيويورك (New York)، بشرط إدراج نيوارك (Newark) وباترسون (Paterson).

بالمثل، ربما يتردد المرء كثيرًا في قوله أن إيفرست أعلى جبل على الأرض، بقدر ما هنالك من معايير لقياس علو جبل ما، فإذا اتفقنا على قياس الارتفاعات الجبلية من مستوى سطح البحر، فإن إيفرست بالتأكيد أعلى جبل (29.028 قدمًا)، لكن إذا قررنا قياس الارتفاعات الجبلية من القمة إلى القاع، فالرابح هنا بركان هاواي (Hawaiian volcano) المسمى “ماونا كي” (Mauna Kea) (33.480 قدمًا في مقابل إيفرست القانع بـ11.000 قدم فقط). وإذا اعتمدنا في المقارنة على قياس المسافة من القمة إلى مركز الأرض –كما يحلو للبعض أن يفعل– فسنجد أن أعلى جبل على الإطلاق بركان تشيمبورازو (Chimborazo volcano) في الأنديز (Andes) (7.000 قدم أعلى من إيفرست!).

هذه أنماط بسيطة للغموض المسبب للحيرة، وقد نستطيع تجاوزها بالاتفاق المشترك على معيارٍ واحد للقياس، ومن ثم المعنى، لكن تظل تواجهنا معضلة كبرى لا يمكننا تجاوزها بسهولة، ألا وهي تعيين الحدود الدقيقة لأي جبل أو نهر أو مدينة أو ما سوى ذلك من موضوعات يشتغل بها الجغرافيون!

مفارقة إيفرست

دعنا نركز على جبل إيفرست، ولننظر كيف تؤدي الحدود الغائمة لكل من الاسم العام: جبل، واسم العلم: إيفرست، إلى مفارقة من نوع المفارقات المنطقية القائمة على ما يُعرف بالاستدلال التراكمي (Sorites paradoxes)، أعني تلك التي تأتي في صورة استدلال يبدأ بمقدمة صادقة تمامًا، وينتهي بنتيجة كاذبة تمامًا، وذلك اعتمادًا على التسلسل المترابط لصيغة إثبات التالي المنطقية (Modus ponons). خذ أولًا كلمة “جبل”: ما أدنى ارتفاع أرضي يمكن أن تكون هذه الكلمة تمثيلًا صحيحًا له؟

يمكننا الإجابة عن هذا السؤال بالاتفاق المشترك، بحيث نقول مثلًا: أي ارتفاع أرضي مقداره 30.000 قدم هو جبل. لكن إذا سلمنا بصدق هذه القضية وفقًا للاتفاق المشترك، كان علينا التسليم أيضًا بصدق القضية اللازمة عنها مباشرة، والقائلة إن: أي ارتفاع أرضي مقداره 29.999 قدمًا هو جبل، ذلك أن التغييرات الكمية التدريجية لا تؤدي إلى تغييرات كيفية، فلا يُعقل مثلًا أن يكون الاختلاف بين الجبل وغير الجبل في قدم واحدة بالزيادة أو النقصان، ومن ثم يمكن أن نمضي في الاستدلال الاختزالي حتى نصل إلى نتيجة غير مقبولة مؤداها أن: أي ارتفاع أرضي بمقدار قدم واحدة هو جبل!

تتشابه هذه المفارقة في بنائها المنطقي مع مفارقة الكومة (Heap)، ومؤداها أن الاختلاف بين الكومة وغير الكومة ليس في حبة رمل واحدة، فإذا افترضنا مثلًا أننا بإزاء كومة من الرمل، وسحبنا منها تدريجيًا حبة فحبة، فسوف تظل الكومة كومة في كل مرة. وهكذا فإذا كانت 100 حبة رمل كومة، فإن 99 حبة أيضًا كومة، و10 حبات كومة، وحبة واحدة كومة!

كذلك الحال لاسم العلم “إيفرست”، إذ يؤدي بنا التساؤل عن حدوده الغائمة إلى مفارقته النوعية من مفارقات الاستدلال التراكمي، فمما لا شك فيه أن بعض الأحجار جزء من إيفرست، والبعض الآخر ليست كذلك، لكن هناك كثرة من الأحجار غير المتعينة، بحيث لا نستطيع تحديد ما إذا كانت أو لم تكن جزءًا منه، فإذا ما حاولنا التحديد، وجدنا أنفسنا في النهاية أمام نتيجة مناقضة تمامًا لما اتخذناه نقطة بداية! ويتبع ذلك بالضرورة أن إيفرست –الاسم– لا يشير إلى حيز مكاني دقيق في الواقع، إنه لا يشير إلى حجم من المادة الأرضية محدد تمامًا ومميز عن محيطه: إن إيفرست غامض!

قد يعترض بعضهم بأننا نستخدم الكلمات في العادة دون حاجة إلى التفكير في حدود الكيانات المشار إليها بها، فليس هناك من يفكر في الحدّ أنه كيان ذو موضع مكاني دقيق، وبالمثل فنحن نعرف كيف نستخدم المصطلحات الجغرافية دون حاجة إلى التفكير في معانيها الدقيقة، بل ودون تقديم تفسير دقيق لأسس مقدرتنا على استخدامها، تمامًا كما نعرف الصوت الذي يُصدره الكمان، مع أننا لا نتمكن من قوله!

تلك في الواقع وجهة نظر الفيلسوف النمساوي “لودفيج فتجنشتين” (L. Wittgenstein 1889 – 1951)، صاحب الهتاف المشهور “لا تسل عن المعنى وإنما اسأل عن الاستخدام”. ومقصد فتجنشتين من هذه العبارة أنه من العبث البحث عن المدلول الدقيق للأسماء التي تحفل بها اللغة، ذلك أن معنى الاسم ببساطة مجموعة استخدامات الناس له في حياتهم العادية، وذلك وفقًا لما يسميه “نموذج التشابهات الأسرية” (The model of family resemblances)، إن هذا النموذج يوضح لنا كيف أن أية كلمة يمكن أن تستخدم بنجاح بصرف النظر عما إذا كانت –أو لم تكن– تلتقي والدقة المثالية التي ينادي بها الفلاسفة، فنحن نُطلق مثلًا على شيءٍ ما كلمة “جبل” لأنه يشبه كثرة من الأشياء التي سُميت حتى الآن جبالًا، ونحن نقول أيضًا أن شيئًا ما جزء من إيفرست لأنه يشبه –في جانب ملائم منه– كثرة من الأشياء التي نقول حتى الآن أنها أجزاء من إيفرست، وهكذا.

على أن نموذج التشابهات الأسرية –رغم وجاهته– لا يُقدم لنا مخرجًا من مفارقة الاستدلال التراكمي، إنه على العكس من ذلك يُقدم تفسيرًا ممتازًا لسبب وقوعنا في المفارقة في المحل الأول، أعني أن استخدام الناس لكلمة ما استخدامًا صحيحًا يفترض مسبقًا أن لديهم فكرة عن معنى هذه الكلمة ونطاق استخدامها، ومن ثم فإذا كان من العبث التساؤل عن المعنى الدقيق للكلمات، فإن من غير العبث التساؤل عن قدرتنا على الحياة مع الغموض، عن معرفتنا به وعدم سعينا لتجاوزه بشتى السبل، لا سيما في مضمار العلم أيًا كان مجاله، ولعل الخطوة الأولى في هذا السعي أن نحدد بوضوح طبيعة الغموض: هل هو في الأشياء ذاتها؟ أم في معرفتنا بها وتمثيلاتنا اللغوية المعبرة عنها؟

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية