فن وأدب - مقالاتمقالات

يا فرخة ما تمِّتْ!

مثل عادته في كل يوم، فقد رجع من عمله متعبًا، مكدودًا، بائسًا، شاردًا، يائسًا، فكل شيء يشي بالشقاء والبؤس والعناء، والألم، والسأم، والسقم، ضجيج من الأفكار المتصارعة والرؤى المتناقضة تَطِنُّ في رأسه، صداع لا ينتهي مما حوله، كل شيء غدا لا يطاق، فأينما ينظر ببصره، يمينًا وشمالًا، وفي كل اتجاه، الفقر يضرب بأطنابه، ويتجذر في كل شيء، حتى يكاد لا يبقي ولا يذر، في شدة لم ير مثيلها حتى في سبعينيات القرن الماضي.

الأسعار تلتهم مرتبه الذي لا يتجاوز ثلاثة الآلاف جنيه، وإبان حالته تلك كاد يصطدم بسيارة مسرعة، وهو يسير هائمًا على وجهه، يفكرب فيما آل إليه أمره، وغدا عليه حاله ومآله، فلا يدري ماذا يفعل في هذا الغلاء الفاحش، الذي جثم على صدره وناء بكلكله، حتى أصبح وحشًا مفترسًا. تلكأ قليلًا في مشيته، لا يروم أن يصل إلى بيته حتى لا يجابهه الأولاد، أو تقوم الزوجة بمطالبته بضرورات الحياة من مأكل ومشرب وملبس، لكن لا بد مما ليس منه بد، أمر الله ولا بد من إنفاذه.

هرج ومرج

وصل إلى الحارة لكنه فوجئ بشيء غريب، هرج ومرج، بل إنه قد سمع صوت زغاريد تملأ المكان، وتشيع البهجة والسعادة، اقترب أكثر فأكثر فوجد الأطفال يلعبون ويفرحون، دقَّق النظر فرأى أطفاله بينهم يتراقصون ويتمايلون، فسأل ابنه الأصغر: “يا بني ما الذي يحدث؟”، لكن الطفل انتحى جانبًا بكرة كانت في يده، ثم انطلق دون أن يرد عليه.

يا ألله! ما الأمر إذن؟! ما الذي حدث؟ ما الجديد في الحارة؟ وما الذي جعلها تكتسي ثوب الفرح، وترتدي سربال السعادة والسرور؟! ولماذا تظهر علامات البهجة على وجوه أطفاله وقد تركهم باكين في الصباح بعد أن عجز عن إعطائهم مصروف المدرسة؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن قطع تفكيره صوت عم محمود البقال، وهو يقول له: “مبروك يا أبو أشرف، ألف ألف مبروك، والله فرحنا لك”، ماذا؟! مبروك! ما الأمر؟! بُهِتَ ولم يُحِرْ جوابًا، اصطدم بخالته الست سعاد، وهي تقول له: “الحمد لله ربنا جبر بخاطركم يا ابني، الحمد لله، ألف مبروك، ألف ألف مبروك”.

اقرأ أيضاً: السوق

يا فرحة ما تمت

كيف أتخلص من حالة الحزن؟ 720x405 1 - يا فرخة ما تمِّتْ!

دارت رأسه، ما الأمر؟ قابلته على الدرج ابنته الكبرى، فأمسك بها، وهي تطير من شدة الفرح، فسألها: “إيه اللي حصل يا هبة؟ إيه اللي حصل؟!”، فقالت له: “الحمد لله يا بابا، الحمد لله، ماما وهي بتنضف فريزر الثلاجة لقيت كيس فراخ كان مستخبي في التلج!”، الله أكبر، أحمدك يا رب، أحمدك يا رب، إنت عالم بينا، إنت عالم بينا.

بيد أنه لم يتمالك نفسه، فسجد شكرًا لله على درج السلم من فرط فرحته، فالأولاد لم يأكلوا اللحم منذ خمسة أشهر، حتى شحبت وجوههم، ونحلت أجسادهم، أسرع إلى شقته، فوجدها مفتوحة، رأى زوجته بجوار الثلاجة وهي تبكي، وتبكي، يا ألله تبكين من شدة الفرح، تبكين؟! ألف مبروك يا أم العيال، الحمد لله ربنا نصرنا، الحمد لله، يلا بقى اطبخي لنا لقمة ترم العضم، وهي لا تكف عن البكاء، احتضنها بين يديه، قائلا لها: “خلاص يا حبيبتي أنا عارف إنك مش مصدقة نفسك من الفرحة، عارف والله، يلا بقى، يلا”، لكنها لا تكف عن البكاء، حتى ارتاب في الأمر، فسألها: “مالك، في إيه؟! ما الأمر؟! تكلمي!، افرحي بقى”، لكها نظرت إليه وهي لا تكف عن الكباء، ثم قالت له: “سامحني يا أبو أشرف، سامحني بالله عليك، أنا آسفة”، ثم نظرت إلى الثلاجة، وقالت له: “فريزر الثلاجة اتخرم من السكينة وأنا بطلَّع كيس الفرخة!”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مقالات ذات صلة:

الغلاء والذنوب

الصائمون قسرًا!

الإفلاس

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. محمد دياب غزاوي

أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية- جامعة الفيوم وكيل الكلية ( سابقا)- عضو اتحاد الكتاب

مقالات ذات صلة