غزة والغزاة
في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد فتح الإسكندر الأكبر ابن فيليب المقدوني العديد والكثير من المدن، وقضى على الكثير من الممالك، حتى استطاع تكوين أكبر إمبراطورية عرفتها الإنسانية، تبدأ من مقدونيا شمال بلاد اليونان، فبلاد اليونان جميعها، ثم آسيا الصغرى، فسوريا ومصر، وأخيرا بابل وسوس.
وهذا هو ما صار معلومًا من خطة ونوايا الإسكندر الأكبر التوسعية الظاهرة للجميع، ولكن الله وحده هو العالم بما كانت آماله الحقيقية لو أطال الله في عمره ولم يسلبه روحه وهو في ريعان الشباب لم يتعدى العام الثالث بعد الثلاثين من عمره.
لقد هاجم الإسكندر الأكبر سوريا بعد أن دانت له مقدونيا وبلاد اليونان وتم له الاستيلاء على صيدا دون عناء يذكر، إلا أنه واجه مشقة وعناء في فتح مدينة صور والاستيلاء عليها. ولكنه في نهاية الأمر استطاع فتحها وأمر بالقضاء على حاميتها التي صمدت أمامه وتصدت لغزوته فترة أنهكت فيها قواه وخدشت جزءا من كبريائه وأمله وتحالفه الدائم مع آلهة النصر.
صمود مدينة غزة أمام الإسكندر
وبعد إحكام سيطرته على صيدا وتنكيله بها فقد توجه الإسكندر الأكبر صوب مدينة غزة الفلسطينية، تلك المدينة التي لم يتوقع منها الإسكندر مثل هذا الصمود وذلك الكفاح والصد المتواصل لهجماته عليها!
لقد اعتقد الإسكندر الأكبر أن قضاءه على صد مدينة صور ثم فتحها في النهاية قد عَلِمَ به الجميع، ومن ثم فلا حيلة ولا أمل أمام المدن والممالك التي سوف يتوجه إليها فاتحًا، فعلى الجميع أن يستسلم دون مقاومة أو عناد حتى لا يلق نفس مصير مدينة صور.
ورغم تلك الدعاية الاستعمارية التي انتهجها الإسكندر إلا أن مدينة غزة قد استطاعت أن تصد هجماته عليها وتقاوم ضربه لها بالمجانيق والألغام والمقذوفات التي أصابتها من جميع الجهات، حتى أن أسوارها قد تصدعت ثلاث مرات أمام هذه المجانيق والمقذوفات وقامت حاميتها ورجالاتها بإعادة ترميمها وإصلاحها، ومع كل مقذوف أو ضربة من المجانيق كانت تزداد مقاومتها وتصديها لتلك الهجمة البربرية الشرسة.
ورغم كل ذلك فقد كان متوقعًا سقوطها واستسلامها في النهاية، خاصة وأن الغازي لها قائد مقدوني شجاع لا يعرف اليأس إليه طريقًا.
انتقام الإسكندر من أهل غزة
وبالفعل استطاع الإسكندر بعد لأي وجهد مرير أن يقضي على حامية غزة ويهزم أسوارها وحصونها، ويقبض على من ظل حيًا من رجالاتها والمدافعين عنها.
لقد أفسدت مقاومة غزة لهجمات الإسكندر انتصاره، حتى أنه كان يشعر بمرارة الفشل رغم نجاحه في كسر شوكة وصلابة المدينة، ومن ثم فقد كال لها الانتقام كيلين حتى يتغلب على إحساسه بمرارة فشله رغم انتصاره. لقد أتى الإسكندر بأشد أنواع الانتقام والتنكيل بمدينة غزة بعد دخولها، وزاد في انتقامه من قائد حاميتها وحاكمها باتيس ذلك الخصي الذي وضعه دارا الفارسي على حكم غزة بعد فتحه لها.
لقد استطاع هذا الخصي بشجاعة نادرة أن يصد هجمات الإسكندر ويذيقه مرارة الفشل واليأس لفترة ليست بالقصيرة. وبسبب مقاومته وبسالته في الدفاع عن مدينته، فقد استحق أشد أنواع العذاب والتنكيل من الإسكندر، قبل أن يزهق روحه ويقضي عليه.
أما أهل غزة أنفسهم فقد قتل الإسكندر منهم جميع رجالها وباع نساءها وأطفالها وسمح لسكان المدن المجاورة من احتلال أراضي غزة والسكن بها. أي أنه قضى على غزة قضاء مُبرمًا، من أراض ومنشآت وسكان.
وإن ما فعله الإسكندر الأكبر قبل التاريخ في غزة وما ظهرت به غزة من صمود ومقاومة وصدا لهجماته، لا يقل عما يحدث الآن ويرتكبه المستعمر الصهيوني الإسرائيلي في غزة وسائر المدن الفلسطينية، وإن ما يفعله أهل غزة وسكان جميع المدن الفلسطينية لا يقل شجاعةً وصمودًا عما فعله سكان وحامية غزة من قبل أمام الإسكندر الأكبر.
صمود ومقاومة أمام المستعمر الصهيوني الإسرائيلي
فمدينة غزة وسائر المدن الفلسطينية تقاوم ذلك المستعمر الهمجي الشرس منذ وعد بلفور المشؤوم عام 1917 م، والذي بمقتضاه منح مَن لا يملك لمن لا يستحق. ولقد ثار الفلسطينيون في عصرنا الحالي ثورتين وقاموا بانتفاضتين مباركتين، وها هم على أعتاب الانتفاضة الثالثة، يعبرون فيها عن رفضهم وعدم قبولهم الذل والهوان من مستعمر محتل بغيض، ولم تخر عزيمتهم يومًا،ولقد هانت عليهم أرواحهم وممتلكاتهم.
فها نحن نرى كل يوم ونسمع ونقرأ عن شباب ونساء، وحتى أطفال عمرهم أيام أو شهور أو سنوات قلائل، يلقون حتفهم على يد هذا المستعمر المحتل البغيض، وها هي المدن الفلسطينية تقاوم وتجاهد بكل نفيس وغالٍ توسعات ومخططات المستعمر الصهيوني الذي أتلف وأفسد كل شيء بكافة المدن والأراضى الفلسطينية، حتى بيت لحم، مهد السيد المسيح، لم تنج من هجماتهم وغطرستهم.
وها هي مدينة السلام –القدس– يحاول المستعمر البغيض القبيح أن يدنس مقدساتها بوجوده فيها ودخوله لمحرماتها، ولكن أهلها الكرام يصدون تلك المخططات والهجمات الشرسة ويقضون عليها ويفسدونها.
وها هي مدن أخرى مثل بيت جالا وبيت حانون ودير البلح وأريحا ونابلس والشيخ جراح وطولكرم جميعها تواجه غزوات المستعمر الصهيوني القذر وتهاجم عنفه وأسلحته وتصلح ما أفسده بها واضعة أمام أعينها وكفاح مدينة غزة قديمًا، والتي تصدت لمن كان أشرس منه وأعنف.
وإن كانت غزة قد واجهت وصمدت أمام غزوات وهجمات الإسكندر الأكبر قديما، فلا بد أن تصمد وتواجه جميع المدن الفلسطينية هجمات وغزوات المستعمر الإسرائيلي الصهيوني. وسوف يأتي اليوم الذي يحتفل فيه الشعب الفلسطيني بانتصاره وحصوله على حقوقه من مستعمره لتتحقق آية الله عز وجل: “ألا إن نصر الله قريب”.
فالنصر والعزة لغزة وأريحا ومدينة السلام القدس مسقط رأس السيد المسيح، ولكافة المدن والبقاع الفلسطينية والشعب الفلسطيني المبارك.
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.