مقالات

غريزة البقاء عند المصريين .. الجزء الثالث

المصريون من أشد شعوب العالم تجانسًا في الصفات العرقية والمقاسات الجسمية، ومن أكثرهم تشابهًا في السحنة والملامح. وقد أثبتت بحوث أن “الجين” المصري المتغلب يسكن أجساد نحو 95 في المائة من سكان مصر المعاصرة. لكن الأمر لم يقف عند حد هذا “البقاء البيولوجي”، بل امتد إلى “البقاء الاجتماعي” و”البقاء النفسي” الذي توزع على صورتين هما البقاء في المكان والزمان.

البقاء في المكان

فمصر دولة قديمة، احتفظت بمكانها الأصلي طوال حياتها، إذ كانت تتمدد في أيام قوتها فتطوي أرضًا جديدة في الشرق والغرب والجنوب، لكنها حين تضعف لا تفقد أرضها تمامًا، فهي إن فقدت بعضها حينًا لا تلبث أن تستعيده، حتى وصلت إلى حالها الجغرافية التي نعرفها عليها الآن. وحتى من احتلوا مصر لم ينزعوها من مكانها، أو يفقدوها وجودها، بل حافظوا عليه، وزادوه أحيانًا، مستسلمين في الأحوال كلها لقدرة المصريين العجيبة على تذويب الغريب أو صهره.

المكان هو الذي نظم علاقة مصر بالجوار والعالم، فأما الجوار فقد حددت الصحراء والبحار طبيعة الاتصال به بما حفظ لمصر طابعها الحضاري وشخصيتها التاريخية، وأما العالم فإن مصر كانت مجمع قارتين، ومفرق بحرين يمتدان بين الحار والبارد، فصارت الزاوية التي يجتمع عندها الشرق والغرب، ولذا لم يكن من المستغرب أن تقصدها كل قوة شرقية تريد السيطرة على الغرب، وكل قوة غربية تريد السيطرة على الشرق.

البقاء في المكان أحد الأركان التي جعلت من مصر أمة وليست محض “دولة”، وهذه خاصية لا يتمتع بها سوى قليل في العالم القديم والمعاصر على حد سواء. فمصر لم تسبق بلاد العالم في قيام دولة وكيان سياسي فقط، لكنها تميزت عن غيرها، من الدول التي ظهرت لاحقًا ومرت بالظروف التاريخية والاجتماعية نفسها، بالمحافظة على وحدتها القومية عبر العصور، التي ساهمت في تحقيقها بعض العوامل الإيكولوجية الخاصة بها، التي أعطت الدولة المصرية، بتكوينها الاجتماعي والاقتصادي الذي تمارس عليه سلطتها، خصائص فريدة.

هذا أكسب المصريين اعتزازًا بأرضهم، وتمسكًا بها، وجعل عقيدة جيوشهم القتالية الدفاع عن الأرض والتضحية في سبيلها، حتى أن المصري الأصيل يتحدث دومًا عن رفضه التفريط في حبة رمل واحدة، ويتحدث الجندي عن مهمته الأساسية في حراسة الحدود من أي غازٍ أو مغير. وهذا كله تحت إطار دستور، أتت نصوصه المتتابعة مع كل تغيير أو تعديل على ذكر الأرض، وآخرها دستور 2014 المعدل 2019، الذي تبدأ ديباجته بتعيين مكان مصر، فتقول:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الانتماء إلى الأرض

جمهورية مصر العربية بعبقرية موقعها وتاريخها قلب العالم كله، فهي ملتقى حضاراته وثقافاته، ومفترق طرق مواصلاته البحرية واتصالاته، وهي رأس إفريقيا المطل على المتوسط، ومصب أعظم أنهارها: النيل”، ثم تنص مادته الأولى على أن: “جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شيء منها”.

كما جعل هذا كله المصري يعتز بالطين، وهو التعبير عن الأرض المزروعة أو التي يمتلكها فرد أو أسرة أو عائلة أو قبيلة وحتى زمام القرى، التي لا يقبل أهلها أن يأتي غريب عن قريتهم ليتملك زرعًا في زمامها، وإن حدث ينظرون إلى هذا دومًا باعتباره شيئًا لا يتوافق مع طبيعة الأمور. ولا يزال المصري ينظر إلى بيع أرضه المزروعة باعتباره عارًا، أو شيئًا كريهًا لا يُقبل عليه إلا مضطرًا تحت ذل الحاجة الملحة.

يندرج تحت الانتماء لأرض مصر بعمومها انتماءات فرعية تملأ نفوس أهل كل قرية أو عزبة أو نجع أو كفر أو مدينة أو حي، للمكان الذين يحيون في رحابه، وينطبعون به، ويؤثرون فيه، لهذا يكون من الصعب على المصري أن ينخلع من مكانه مضطرًا، لأسباب عديدة، وحتى إن انخلع طوعًا فهو لا يكف عن الحنين إلى مكانه القديم.

على مدار قرون طويلة بقي المصريون في أرضهم، لا يبرحونها أبدًا، حتى ضاق بهم العيش في العقود الأخيرة فهاجروا إلى الشرق والغرب سعيًا وراء الرزق، لكن الأغلبية الكاسحة من هؤلاء المهاجرين تحتفظ ببيوت في مصر، حتى لو حصلوا على جنسيات أخرى وتحققوا في المهجر، والكل يحرص على أن يمتلك مقبرة في أرض النيل، يدفن فيها بعد موته.

أهداف التوسع المصري

البقاء عند المصريين

لا يقوم إيمان المصريين المعاصرين بقيمة البقاء في المكان على نزعة شريرة، تنشأ من غزو أو إغارة على أرض الغير، وضمها والتشبث بها، فحتى أيام كان لمصر بعد ثورة يوليو 1952 “مجال حيوي” في محيطها الجغرافي، لم ترتبه على الاستيلاء والجبر، إنما على تشجيع الآخرين ليحذوا حذوها، ويكونوا معها وهي تقود الركب العربي، ورأينا كيف تركت مصر الفرصة للسودان كي ينفصل ويستقل، ولم ترض أن تقيم وحدتها مع سوريا على الإجبار.

حتى في التاريخ البعيد، لم يكن التوسع المصري الخالص مصحوبًا بتوحش أو إفراط في سفك الدماء، وكان أغلبه دفاعًا متقدمًا عن حدود مصر يجب فيه أن يصد الجيش العدو القادم لغزو مصر في أرض الشام، أو كان سعيًا لاكتشاف منابع النيل وتأمينها، باعتباره شريان الحياة للمصريين، أو تعبيرًا عن شعور بالاختلاف عن بقية الوحدات التي تشكل الإمبراطوريات المتعاقبة التي احتلت مصر وغيرها.

رغم أن المكان عزيز في نفوس المصريين فإنهم لم يغلقوه أمام الغريب المستجير أو الباحث عن ملاذ آمن. فعلى مدار التاريخ فتحت مصر أبوابها لمن قصدوها مهاجرين فارين من اضطهاد أو استبداد أو غزو، وآخرهم الشوام والأرمن في العصر الحديث، وأهل البلدان العربية التي شهدت اضطرابات شديدة وحروبًا أهلية إثر تشبث المستبدين بكراسيهم التي ثارت عليها الشعوب. كما فتحت مصر الباب لمن أتعبهم السفر الطويل مثل الحجاج الأفارقة والمغاربة، الذين كانوا يفضلون البقاء فيها في أثناء رحلة العودة من مكة.

(نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

اختزال التعقيد وضرورة حفظ الوجود

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري