غاية الفصيح في الاحتفال بعيد ميلاد المسيح, الكريسماس بين المحتفلين والمهنئين
ميلاد المسيح وبداية الكريسماس:
في هذا الوقت من كل عام ترِن الأجراس وتتزين العالم لحلول مناسبتين مهمتين: الأولى بداية السنة الجديدة والثانية ميلاد السيد المسيح، وهما مناسبتان يحتفي بها العديد من سكان العالم بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية والعقائدية، كما يعمها العديد من السجالات والمعارك الكلامية عن الكريسماس والاحتفال به ورغم أننا نقرأ نفس الأفكار والدعاوي كل سنة ونفس الردود والفتاوى إلا أنه من الأولى أن نتعرض لهذه القضية بالعقل والتحليل.
ما الذي يجب أن نحتفل به وما الذي لا يعنينا الاحتفال به؟ علاقاتنا بالآخر ما هي حدودها؟ والعديد من الأسئلة التي تفرض نفسها علينا في هذه المواسم.
ولد المسيح في وقت ما منذ 2000 عام تقريبا من سيدة فاضلة عظيمة تسمى مريم، وكان ميلاد المسيح أمرًا استثنائيًا، وكانت أيضا حياته استثنائية رغم أنها ليست مليئة بالأحداث ولا نعرف عنها سوى القليل إلا أن وجوده قلب العالم رأسا على عقب، وبغض النظر عن انتماءاتك الدينية إلا أنك لا تستطيع أن تنكر هذا، لقد كانت لحظة ميلاد المسيح من اللحظات التي يكون العالم بعدها مختلفا عما كان قبلها.
ومع الوقت ظهرت ملامح المسيحية وأصبح الناس يحتفلون بمولد المسيح وظهرت شجرة الميلاد وسقطت روما وقامت الحرب العالمية الثانية وسقطت دول وأيدولوجيات وارتفعت أخرى.
بابا نويل مسيح ما بعد الحداثة:
نعود إلى العصر الحالي بعد الميلاد ب2000 عام تقريبا وبالتحديد لآخر يوم في العام واحتضار عام و ميلاد عام جديد، نعود لعصر ما بعد الحداثة ووفاة القيم المعنوية وإيداع الروحانيات مستشفى المجاذيب واستغراق البشرية في المادية والاستهلاك برعاية الحضارة الغربية، نعود إلى هذا العصر حيث نجد أن المسيح الحقيقي ليس هو ابن العذراء بل هو سانتا كلوز أو بابا نويل، من هو هذا الرجل؟
قصة سانتا كلوز قصة واقعية مأخوذة من قصة القديس نيكولاس، وهو أسقف عاش في القرن الخامس الميلادي، وكان يقوم أثناء الليل بتوزيع الهدايا للفقراء ولعائلات المحتاجين، دون أن تعلم هذه العائلات من هو الفاعل، وصادف وأن توفي في ديسمبر.
الصورة الحديثة له أي الرجل ذو الثياب الحمراء واللحية الطويلة القادمة على عربات تجرها غزلان، والداخل للمنازل عن طريق المدفأة، فتعود لعام 1823 حين كتب الشاعر الأمريكي كلارك موريس قصيدة “الليلة التي قبل عيد الميلاد” يصف بها هذه الشخصية.
في العصر الحديث أو في الغرب تحديدا غالبًا ما يقوم الأطفال بكتابة رسائل إلى سانتا ويضعونها في جراب الميلاد أو بقرب الشجرة قبل العيد، ويستيقظون صباح العيد لفتحها، من العادات المنتشرة أيضًا أن يقوم جميع أفراد الأسرة بتبادل الهدايا بين بعضهم البعض وإن كانت رمزيّة.
هنا تأخذ الأمور طابعًا تجاريًا إلى حد ما، وهذا أمر قد أضافته الحضارة الغربية للأديان على سبيل الاستيعاب وشرعنة وجودها في النظام العالمي، فالدين حتى يكون مقبولًا عندهم لا بد أن يكون له طابع استهلاكي، فَلنوَلِّ نظرنا إلى أعيادنا سنجدها قد تم تجريدها من أبعادها الروحانية، وإضافة رونق مادي لا بد أن يفلسك ويضعك تحت خانة المستدينين.
يسطع نجم سانتا كلوز أو بابا نويل، وينطفئ نجم المسيح لأن سانتا كلوز يجلب الهدايا من المتاجر والألعاب والمجوهرات، بينما المسيح قد ضرب الصيارفة بالسياط يوم العبور في المعبد، المسيح يدعو للزهد والأخلاق ويؤكد على حقوق الفقراء والأمور المعنوية والروحانية، بينما سانتا يدعوك لشراء الهدايا لأقربائك واطفالك بأسعار السوق العالمية.
عندما نقرأ تاريخ القديس نيكولاس وكيف أنه كان يوزع الهدايا على الفقراء ونرى ماذا فعلت به المادية وحولته لرجل أعمال نتذكر على الفور القديس فالانتاين ومقاومته للسلطة الرومانية التي حولتها الحضارة الغربية أيضا لموسم لتبادل الهدايا بين المحبين.
نحن لسنا ضد الهدايا بل ضد حصرها في موسم والتسويق لها عبر الأغنياء ليسرقوا بها نقود الشعوب.
الآن الكريسماس بطولة سانتا وهناك خلفية لترانيم تهطل عليها الثلوج واحتفالات بازخة وهدايا وفيلم “وحدي في المنزل” وكالعادة بالطبع المعارك المعهودة بين تيار “نعم نود الاحتفال بالكريسماس” وتيار “كلكم هتروحوا النار”، الموضوع يبدأ بحلول أعياد الميلاد وتبادل التهاني فيقوم التيار المتدين وبدافع الغيرة على الدين -وهو دافع نبيل ومطلوب- بتوضيح حرمانية تهنئة غير المسلم بالعيد وتحريم الاحتفال بالكريسماس، ويرد الطرف الآخر بأن الدين لا علاقة له بالأعياد وأن هذا تخلف ورجعية، وعدم تهنئة الآخر بأعياده هو بعيد عن المواطنة ونبذ للآخر، كلنا نعلم ماهية هذه الحروب الكلامية بين الطرفين، ولسنا هنا في مقام الفتوى لأن هذا ليس من تخصصنا ولكننا ستنناول القضية من منظور عقلي يجمع ولا يفرق ويبين حقائق الأمور.
كريسماس للجميع بعيدا عن استهلاكية الحضارة الغربية
الاحتفال برأس السنة الميلادية هو مناسبة اجتماعية قبل كل شيء، والاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح هو مناسبة دينية قبل كل شيء أيضا، الفكرة هنا في من سيقوم بهذا الاحتفال؟! هل هو معني بهذه المناسبة أم لا؟ هل هو عليه الاحتفال بهذه المناسبة أم هو يخوض مع الخائضين؟ هل تعتبر هذه المناسبة مشتركًا حضاريًا أم خصوصية حضارية؟
هوية كل إنسان هي ما يعتقد به من أفكار عن الإله والعالم والإنسان، وهي أيضا الأيدولوجيا والمتمثلة في الأخلاق والسياسة والاقـتصاد والاجتماع، وهذا ما يعبر عنه بالخصوصية، وهناك أمور مشتركة إنسانية مثل احترام الآخر وعدم الطعن في عقائده وتبادل الود والاحترام معه، الدين من ضمن الخصوصية التي تخص كل إنسان وتفصله عن الآخر، لذلك إذا وجد عيد ديني فأصحاب الطائفة الواحدة أولى به من غيرهم، والاحتفال معهم من أصحاب الطوائف الأخرى لا يجوز ويخرق الخصوصية الحضارية أو الأنا الشخصية، ويندرج تحت طائلة الغزو الفكري، فأنت مثلا لا تجد غير المسلمين يحتفلون بالمولد النبوي أو بذكرى الإسراء والمعراج، ولا يحتفل الغربيين بعيد الموتى الذي يحتفل به المكسيكيين، بل الأعياد الدينية والوطنية تدخل في نطاق الخصوصية الحضارية والأنا الشخصية.
أما المشترك الإنساني
مثل الود وتمني الخير له، ومن ذلك تهنئة الآخر بالعيد الذي حل عليه وأدخل عليه السرور، وتمني له دوام هذه الحالة، هذا من لوازم الود الذي يجب أن يعم أهل المجتمع الواحد، تهنئة الآخر وليس الاحتفال بعيده، فتهنئة الآخر لا تعني أنني أؤمن بما يؤمن به، هنا أكون قد حافظت على خصوصيتي وشاركت الآخر وأشعرته بالمودة والقبول.
فالقضية هنا أمر بين أمرين، كما عودنا المنهج العقلي ليست ثنائية، إما أن أنغمس مع تقاليد الآخر لأبين له أني في صفه، أو أهين معتقدات الآخر لأبين نفسي متميزا عنه وأنفصل عنه، فالوسطية هنا هي أن أحتفل بأعيادي وأهنيء الآخرين بأعيادهم وأتمنى لهم السلامة وأحرص على أمنهم.
يمكنك أيضا الاحتفال برأس السنة ولكن بشكل عاقل، تحتفل بأنك استطعت أن تبلغ العام الجديد وأن تحاسب نفسك على القديم، أن تنتهز الفرصة وتزن نفسك هل تطورت خلال العام المنصرم أم لا؟ هل وجودك كان نعمة على الآخرين أم نقمة؟ هل أديت ما عليك من واجبات فردية واجتماعية وسياسية أم لا؟ الاحتفال باللهو والعبث والمجون هو أمر لا يرضاه كل صاحب عقل وفضيلة؟ وأكاد أقسم أن السيد المسيح إذا عاد –وأنا مؤمن أنه مطلع على ما يحدث- سيغضب لكثير من المظاهر اللا أخلاقية والحماقات والقبح والفحش الذي يعم تلك الفترة من السنة.
وأهم شيء سواءً كنت تحتفل بالكريسماس أو تهنئ به الناس، ابتعد عن المظاهر الاستهلاكية التي تصاحب الأعياد، ابتعد عن الخديعة التي أوقعتنا فيها الحضارة الغربية، اهتم بما تحمله الأعياد من معانٍ ولا تهتم بالبذخ والتكلف والاصطناع.
وكل عام وأنتم بخير.
اقرأ أيضًا :
القضية الأهم في عالمنا اليوم.. كيف ننصر فلسطين؟
القوى الكامنة في الإنسان .. لماذا نحن مميزون بالعقل (1)
نبي الله محمد ودوره في ارتقاء الفكر الإنساني…مولد ربيع العقل (1-