مدخل
استعرضنا في الحلقة السابقة النموذج أو السيناريو العام الذي يتخذه الاستعمار لدخول بلد ما، فهو يبدأ بإيجاد موطئ قدم له في البلد المستهدف، ثم يبدأ في إعادة تشكيل شعبها ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا لخدمة أهدافه.
وقد سارت بريطانيا على هذا النهج إبان ثورتها الصناعية منتصف القرن الثامن عشر (1760)، فقد كانت حاجتها ماسة إلى توفير المواد الأولية لمصانعها، كما تصريف منتجات تلك المصانع، ومن هنا استهدفت بريطانيا مصر لتوفير المواد الخام ولتصريف منتجاتها، فعمدت إلى تغيير نمط الاستهلاك بإشاعة الاستهلاك الترفي لمنتجاتها، ثم أصبح الترفي أساسي تقوم باستيراده.
ولتوفير تلك المنتجات –ولأسباب أخرى– بدأت الاستدانة في عهد سعيد باشا، ثم لم تلبث تلك الاستدانة أن زادت جدًا في عهد الخديو إسماعيل، تلا ذلك تدخل الدول الأجنبية الدائنة وعلى رأسها بريطانيا في الشؤون الداخلية لمصر بحجة حماية مصالح رعاياها الدائنين، وانتهى الأمر باحتلال مصر عام 1882.
ولكي تعيد بريطانيا هيكلة الاقتصاد المصري ليتوافق مع مصالحها استخدمت عدة أدوات ذكرنا أولاها في الحلقة السابقة، ألا وهي “الامتيارزات الأجنبية”، ورأينا كيف وجهتها لمصالحها.
وفي الحلقة التي بين أيدي القراء نتكلم عن أداة أخرى لإعادة هيكلة الاقتصاد المصري منتصف القرن التاسع عشر، ألا وهي تعاملها مع نظام الاحتكار، وأترك القارئ الكريم لمتابعة هذه الحلقة.
بريطانيا ونظام الاحتكار في عهد محمد علي
قام محمد علي باحتكار الحاصلات الزراعية والإتجار بها، وسرى مبدأ الاحتكار من الزراعة إلى الصناعة، مما كان له أثر سيئ على التجار سواء المحليين أو الأجانب، فقد قيد نظام الاحتكار حرية التجارة التي أقرتها الامتيازات،
مما دفع بريطانيا إلى تضمين معاهدة لندن 1840 بندًا بالتزام محمد علي بالمعاهدات التي أبرمتها الدولة العثمانية وخصوصًا “بلطة ليمان” التجارية (1838)، وفيما يلي لمحة من ذلك:
كيف كان حال الفلاحين في عهد محمد علي؟
كان من المعهود منذ عهد المماليك جباية الضرائب على الحاصلات الزراعية، ولم يكن الفلاحون في عهد محمد علي –الذي خولهم حق الانتفاع بالأراضي– يستطيعون أداء الضريبة نقدًا في موعدها، ولا أن يسددوا أثمان الأدوات والبذور التي أخذوها من الحكومة على سبيل القرض،
فأذن محمد علي للفلاحين أن يؤدوا الضريبة صنفًا من حاصلاتهم الزراعية، وكانت الحكومة تتولى بيعها للأهالي ولتجار الجملة من الأجانب الذين يصدرونها إلى الخارج، بل وكانت الحكومة تشترك معهم في التصدير، مما أدر أرباحًا طائلة أغرت محمد علي باحتكار حاصلات القطر المصري والإتجار بها.
فقررت الحكومة شراء الحاصلات من الفلاحين بأسعار تحددها هي، وكانت تخصم من الثمن ما عليهم من الضريبة وتدفع لهم الباقي نقدًا، وصارت هي التي تتولى التصرف في الحاصلات بالبيع أو بالتصدير، وإذا احتاج الفلاح شيئًا اشتراه مرة أخرى من الحكومة بالأسعار التي تحددها هي.
وقد انتقد معظم كتاب الغرب نظام الاحتكار، فقد نقل عبد الرحمن الرافعي عن مسيو “ماريو” قوله: “لا حاجة بنا إلى الإطالة في عيوب نظام الاحتكار كما وضعه محمد علي، لقد ربح الباشا منه أرباحًا طائلة، لكنه أفضى إلى فقر الفلاحين المدقع، وكاد يهوي بهم إلى المجاعة، لولا ما اعتادوه من القناعة وشظف العيش”.
محمد علي وتطبيق نظام الاحتكار التجاري
وسرى مبدأ الاحتكار من الزراعة والتجارة إلى الصناعة، فبعد أن صار محمد علي المالك الوحيد لأراضي مصر، ثم التاجر الوحيد لحاصلاتها، صار الصانع الوحيد لصناعاتها([1]).
وطُبق نظام الاحتكار على البلدان الأخرى التي امتدت إليها سلطة الوالي بدرجات متفاوتة، وكان من الصرامة في السودان بحيث توقف السكان عن إحضار سلعهم إلى الأسواق.
وفرضت الحكومة ضرائب على نقل المنتجات من مكان لآخر مما عرقل الحركة التجارية. وفي كريت جرى احتكار الزيت. وفي الشام طُبق نظام الاحتكار بوجه عام وبخاصة على الحرير.
وقد تطور نظام الاحتكار الذي فرضه محمد علي في الوقت الذي كانت فيه التجارة الحرة قد وطدت أقدامها في أوروبا الغربية، خاصةً وأن ازدياد الإنتاج في بريطانيا قد استلزم محاولة الحصول على فرص تجارية متزايدة، وجعل الحكومة البريطانية تسعى لدراسة أحوال التجارة في أنحاء العالم، بهدف إعادة النظر في المعاهدات القائمة والحصول على أحسن الشروط للتجارة البريطانية.
اقرأ أيضاً:
الخطة اللي رسمها ونفذها محمد علي
معاهدة بلطة ليمان
وتوافق السلطان العثماني محمود الثاني مع اتجاهات بريطانيا بحكم أنه كان يسعى إلى تدمير أكبر مصدر لدخل محمد علي، ليعجزه عن الاحتفاظ بالجيش الذي يهدد السيادة العثمانية على مصر.
وفي 16 أغسطس 1838 وُقعت الاتفاقية البريطانية – التركية أو معاهدة “بلطة ليمان” التي تهدف إلى تحطيم الممارسات الاحتكارية في الامبراطورية العثمانية، وكان مما نصت عليه:
“التبادل الحر للمنتجات. ومنح الرعايا البريطانيين وضع الدولة الأولى بالرعاية وتمتعهم بكل المزايا الممنوحة لرعايا الدول الأخرى. إضافة إلى تحديد الرسوم على الواردات بـ 5% وإلغاء الضرائب الإضافية على الواردات. وتحديد الرسوم على الصادرات بـ 12% وأن يدفع المصدرون الأجانب 3% منها([2])”.
معاهدة لندن
كانت معاهدة لندن 1840 قاصمة لمشاريع محمد علي، فقد كان محور الاقتصاد المصري في عهده هو الجيش، ونصت المعاهدة على تقليص أعداد الجيش إلى 18 ألف جندي وقت السلم، فانخفض الجيش من 224 ألف جندي سنة 1836 إلى 50,5 ألف سنة 1842([3]). وكانت الضربة الثانية المؤثرة في المعاهدة هو نصها على إلغاء الاحتكارات.
فمعاهدة بلطة ليمان التجارية ومعاهدة لندن جاءتا لتحددا ما يجب أن تكون عليه مصر، وبالتالي موقف كل دولة أوربية من المسألة الشرقية، والمسألة المصرية،
فحددت هذه المواقف في إطار رغبة واحدة تتمثل في القضاء على نظام الاحتكار، ومحاولة تحديد نفوذ الوالي في أقل نطاق ممكن، فالدول الأوربية كانت ترى أن التعامل مع دولة ضعيفة أحسن من مواجهتها لقوة كقوة محمد علي([4]).
الصراع بين الهيئات القنصلية الأجنبية وبين محمد علي
وعلى إثر معاهدة لندن 1840 صرح محمد علي بأنه مستعد لتنفيذ شروط المعاهدة التجارية، وفي يناير 1841 ألغى احتكاره للغلال والبذور الزيتية ليبدي أنه عند تعهده، وفي وقت متأخر من نفس السنة أبلغ الكولونيل “بارنت”، قنصل بريطانيا العام الجديد، أنه مقتنع بأن التجارة الحرة شيء جيد، لكنه أكد أنه لا يمكن تحقيقها إلا بالتدريج.
وخرج بارنت من مناقشته مع الباشا بأن محمد علي سيمارس كل طرق المراوغة والمماطلة ليمنع الممارسة الكاملة لحرية التجارة في مصر. وما لبثت الأحداث أن أثبتت أن بارنت كان محقًا تمامًا في اعتقاده.
وطوال السنتين التاليتين اشتد الصراع بين الهيئات القنصلية الأجنبية وبين محمد علي حول تطبيق مبدأ حرية التجارة تطبيقًا عمليًا ونظريًا([5]).
موقف الحكومة البريطانية من الاحتكارات في مصر
وقد وقفت الحكومة البريطانية موقفًا حازمًا ناجحًا في وجه دخول الاحتكار إلى سوريا بعد احتلال محمد علي لها. ولكنها بالنسبة للاحتكارات في مصر لم تقف نفس الموقف لعدة أسباب منها:
أن بعض الاحتكارات كانت تخدم مصالح الجالية التجارية البريطانية في مصر، إضافة إلى أن كثيرًا من الاحتكارات ماتت ميتة طبيعية، فعلى سبيل المثال انتهى احتكار الحبوب سنة 1838، وهُجرت الصناعات الاحتكارية تقريبًا، وتطرق الضعف لاحتكار النقل في النيل.
على أن احتكار القطن، الذي يعد أهم محصولات التصدير في ذلك الوقت، كان لا يزال قائمًا. فكان كثير من الأراضي المزروعة قطنًا في يد الوالي، ولم يكن من المستطاع منعه من حق التصرف فيما يملكه بالسعر الذي يريد.
وكان الاحتكار يتناسب ومصالح عدد من التجار الأجانب، الذين كانوا يضمنون لأنفسهم الحصول على حصة من القطن مقابل تزويد محمد علي بالقروض قصيرة الأجل، تلك القروض التي أصبحت جزءًا أساسيًا من نظامه المالي، وجسرًا يعبر عليه الفجوة بين الموارد والنفقات([6]).
وفي الحلقة القادمة –إن شاء الله– نستكمل التعامل البريطاني مع نظام الاحتكار في إطار سعيها لإعادة هيكلة الاقتصاد المصري ليتوافق ومصالحها.
المصادر
([1]) عبدالرحمن الرافعي: عصر محمد علي، دار المعارف، ط5، القاهرة، 1989، ص ص 534-536.
([2]) أحمد عبدالرحيم مصطفى: عصر حككيان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990، ص ص 35-38.
([3]) السيد يوسف نصر: الوثائق التاريخية للسياسة المصرية في أفريقيا في القرن التاسع عشر، دار المعارف، ط1، القاهرة، 1980، ص 31.
([4]) عبدالكريم مدون: العلاقات الاقتصادية المصرية الفرنسية (1840-1863)، رسالة ماجستير، مودعة بمكتبة الجمعية التاريخية المصرية، 1988، ص 221.
([5]) هلين آن ريفلين، الاقتصاد والإدارة في مصر في مستهل القرن التاسع عشر، ترجمة: أحمد عبدالرحيم مصطفى ومصطفى الحسيني، دار المعارف، القاهرة، 1968، ص 272.
([6]) جون مارلو: تاريخ النهب الاستعماري لمصر (1798-1882)، ترجمة عبدالعظيم رمضان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2003، ص 112-113.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
**************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا