عن الواقع العربي أتحدث!
أكتب أحيانًا، لا ليقرأ لي أحدهم أو بعضهم، بل لأقرأ نفسي، لأرقب مجرى إجاباتي عن تساؤلات ما برحت تؤرقني، وأطوار تأملاتي إزاء واقع يأبى إلا أن يُعاند العقل، يُصارعه، ويقذفه بسهام العبث مفتونًا بصلابة الجهل! أكتب لأرى انطباعات الأيام على قلبي وعقلي وقلمي، وأختبر مدى رجفة الكلمة وصدى نبرة الحرف، وأستكشف ملامح لحظة هاربة في وطنٍ مجهول الحاضر والآتي! وفي كل مرة أعود مُنكسرًا، فالواقع لا يتغير.. والعالم يزداد سوءًا!
قد يصعب على جاهلٍ مثلي في أمور السياسة والاقتصاد أن يفهم أبعاد لُعبة المصالح على المستويين العام والخاص، تلك التي ينغمس فيها كل من استطاع إليها سبيلًا، بل ويسعى إليها دهماء العلم والثقافة والقيم في مشهدٍ أشبه ما يكون بمشهد خروج قارون على قومه في زينته، وتمني طُلاب الحياة الدنيا أن يكون لهم مثل ما أوتي من حظٍ عظيم!
أية مصلحة تلك التي تدفع بالمرء إلى ممارسة الدعارة الفكرية والبغاء العقلي، بل وتدفع به إلى طرق الأبواب في مذلة، والانبطاح تحت موائد السادة منتشيًا بروائح أقدامهم، ملتمسًا ما تبقى من حصائد فسادهم؟
أهي الشهرة؟ ما أقبحها حين تُباع وتُشترى في أسواق النخاسة، وما أغربها حين تجمع بين شرفاء سعت إليهم عن حق، ورويبضات يقترفون الموبقات ويبيعون الوهم، وما أشد قسوتها حين تُكبل حائزها وتحول بينه وبين بساطة الحياة!
أهي شهوة السُلطة ونشوة تلقى نظرات الإعجاب؟ ما أثقل حساب السُلطة إن أُخذت بغير حقها، أو حادت عن الحق في طريقها، وما أتفه نظرات الإعجاب إن جاءت من همجٍ رعاع، ينعقون مع كل ناعق، ويُصفقون لمن اعتلى منبرهم بجهله أكثر ممن يُكابد مشقة الصعود بعلمه!
أهو المال؟ ما بالنا ننسى أن الرزق مقسوم والحريص محروم والبخيل مذموم، تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يُعط لم يرض!
ما زلت أحاجج نفسي، وكأن بداخلي شخصين يتباريان بحُجج الفناء والبقاء، الحياة والموت! يقول الأول: إنها الحياة، فلتمتلئ بها، ولتحيا كل لحظة فيها قبل أن تغادرك إلى غير رجعة. يمتعض الثاني، وترتسم على وجهه علامات الدهشة، يُمسك الأول بكتفي، يرجرج فيهما الأفكار والكلمات: الحياة؟! أيُ حياة تلك التي تضطرك لألّا تكون بشرًا سويًا؟ أي حياة تلك التي تدفعك إلى التظاهر بالجنون والغباء لكيلا تبدو غريبًا بين حشد السُكارى؟! يقول الأول: ويحك، أتقاوم العالم؟ فيجيب الثاني: كلا، أنا لا أقاوم العالم، بل أقاوم شيئًا أكبر.. أقاوم تعبي من هذا العالم!
في معية هذا الواقع العبثي أرى كثرةً من البسطاء ينطلقون كالفراشات، ويمضون إلى احتراقهم بصمت! لقد عانوا حتى التوهج، لا، بل حتى الموت حرقًا! لم يستطيعوا إقناع أحد بعتق أرواحهم، لم يستطيعوا الفرار لا إلى الداخل ولا إلى الخارج، ولم يجدوا قلبًا حانيًا أو عقلًا يُؤوي أحلامهم الصغيرة، تُرى بماذا يُمكن أن يُجيبوا إذا سُئلوا بأي ذنبٍ قُتلوا من الداخل عقلًا ووعيًا وإن ظلت أجسادهم تؤدي طقوس البقاء المنقوص في الحياة؟!
حقًا، لا تستهن بقوة الأغبياء حين يُشكلون الأغلبية، ولا بقوة الفاسدين حين يكون الفساد سائدًا في مكانٍ ما، ولا ببشاعة الحديث مع غبي مُنح شهادة أو تقلد منصبًا أو وُكل إليه إنجاز عمل ما.. الغباء قد يكون سمةً جالبةً لسعادة التخلف وعافية الجهل وبهجة العبث ودفء الفساد، لكن مواجهتك له وحيدًا قد تُدمرك! وكلما ازداد الإنسان غباءً وبلادة ازدادت رغبته في التكاثر، ولو كان أفقيًا (بكثافة التواجد واستنساخ الذات الغبية)، وازداد يقينًا بأنه أفضل من غيره في كل شيء، وازداد تشبثًا بحماقته، وازداد طلبًا لمكانةٍ غير مُستحقة، ولمردود اجتماعي تُغذيه التفاهة ويُعمقه النفاق! وهكذا تراه تافهًا كالعنكبوت اتخذت بيتًا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، تافهًا كحاضرنا الغث، كمستقبلنا الغائم، كأطماعنا المتصارعة، وكصخب حواراتنا الجوفاء، تافهًا كشبابنا المُلقى على قوارع الطرق، المُعتقل في أروقة المقاهي، وكتبريرات كهولنا لخيباتهم التي تلازمنا بالوراثة، تافهًا كإعلامنا، كأفلامنا، كأغانينا، وككتابات وأحاديث نُخبتنا، تافهًا كالذباب يحوم حول القوم مرحًا، يسلبهم شيئًا من طعامهم فيمرضون ويبقى، المجد للتفاهة أنشودة السادة، وتعويذة البقاء والريادة.. المجد للتفاهة، سبيل القوم إلى السعادة!
توقف عن تسويق نفسك أنك إنسان مثالي، واستمتع بوقاحتك وغبائك قليلًا، توقف عن تسويق عملك الطبيعي أنه إنجاز عبقري غير مسبوق، وواجه فشلك وخيبتك ولو في غرفة مغلقة، قم بنزع القناع من حين إلى آخر، قف أمام المرآة عاريًا وخُض تجربة إحياء الضمير، فالضمير يعني أن تخجل من نفسك ولو لمرة واحدة في اليوم! واعلم أن أرجل الكرسي لا ترفع إلا قزمًا، وكلما ازداد تقزمه ازدادت حاجته إلى أرجلٍ أطول، لكنه في الحقيقة يظل قزمًا، ولأنه قزم ترى لسانه أطول من قامته، وتهليله وصراخه أشد من أوتار حنجرته، وإن عكست حماقته، ولأنه قزم فلن يختار إلا من هم أقصر منه قامة، ولن يرى غيرهم سوى طوالًا ينبغي بتر أقدامهم!
أخيرًا، إذا رأيت العاهرة تمارس عملها في وضح النهار آمنة مطمئنة، بعد أن كانت تمارسه في ظلمة الليل على خوف وحياء، فاعلم أنك في زمنٍ قد مُحيت فيه كافة الخطوط الحمراء بين الحق والباطل، وفي عالم مهده الشيطان بُحطامٍ من القيم والضمائر الخربة، ومهده السياسيون والإعلاميون بحطامٍ من بقايا العزة والحرية والكرامة! قدرك أن تحمل أوزار من مرَّوا بالوطن أو مرَّ بهم في غفلة من العقل.. قدرك أن تجلس على الشاطئ وحيدًا، تُراقب غرق الحلم الهارب وأنت بلا حيلة!
مقالات ذات صلة:
هل هناك قطيعة إبستمولوجية في الفكر العربي؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا