مقالاتقضايا وجودية - مقالات

عن الفناء والخلود

ضعف الإنسان عن تحمل مشقة المستقبل المجهول (الفناء , الخلود)

نريد هذه المرة أن نسافر في عالم المجردات بين معاني هامة لنحاول الوصول لحقيقتها. ثم نعود من عالم المجردات و#المعنى لعالم العمل والسعي لنعكس هذه المعاني على حياتنا ونغير بها دفة السفينة ونعدل من مسار إبحارنا نحو الأفضل. المعاني التي سنتكلم عنها هذه المرة هي معاني الفناء والخلود. قد نتعجب من اختيار هذه المعاني، فالرومانسيات الأدبية وأساطير ملوك الشرق والغرب قد أسهبت وفصلت القصص العجيبة والمغامرات الطويلة التي خاضها أبطالها بحثا عن الخلود وتجنبا للفناء. فيكون التعجب لعدم جدوى هذا النقاش فكلنا سنموت يوما ما ولن نصل لهذا الخلود الذي كانت تحكي عنه تلك القصص.

لكنّ #الفناء أو#الخلود اللذين هما موضوع النقاش مغايران للمعاني المقصودة في تلك الروايات. فهؤلاء بحثوا عن خلود الدنيا والمادة وتجنبوا خلود الروح والعقل في أغلبهم. وأيضا خافوا من فناء الجسد ومتعته ولم يخفهم فناء متعة الروح والمجردات والتي تعد مرارة فقدانها أشد وطأة وأقسى عذابا من فقدان لذات الدنيا.

إن سعي الإنسان في الدنيا هو لتجنب أزمات المستقبل وترقبه لها. فهو دائما ما يحسب ويفكر. ففي الصيف يبني السقف ليقيه مطر الشتاء وفي مواسم المطر والزراعة يخزن ما يتقي به شر مواسم القحط والجفاف. وهكذا في كل جانب من جوانب الحياة. فغريزة البقاء لدى الإنسان تدفعه نحو تسخير قدراته العقلية والعلمية والجسدية للحفاظ على بقائه. وبتسخير تلك القوى بالطريقة السليمة نجح الإنسان ولو بشكل جزئي في تحقيق بقاء نوعه. فأصبح بفضل العقل والتفكير الابتكاري النوع المسيطر على مملكة الأرض بين كافة الأنواع مهما تفوقت عليه في القدرات الجسمانية.

فرح الإنسان بالنتائج الفورية السريعة

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقد حقق الإنسان بفضل تلك المهارات الكثير من الإنجازات على مر العصور وفي مختلف أقطار الأرض. ولقد اعتبر الإنسان هذا الإنجازات بلا شك انتصارا يستحق الاحتفال والتفاخر. فتفاخرت كل حضارة على أختها بإنجازاتها وتألقها وقدرتها على تسخير الممكلة الدنيوية بصورة تختلف وتتفوق عن الطرق التي تستخدمها الشعوب الأخرى.

لكن للأسف وفي هذا الزخم من الانتصارات والتفاخرات والاحتفالات، اختفت أسئلة هامة عن ذهن الإنسانية والأمم والشعوب. أحد أهم هذه الأسئلة هو الغاية من البقاء. أو ماذا بعد؟ هل الهدف من البقاء هو مجرد البقاء؟ هل هو هدف لذاته أم لغيره؟ لو سلمنا أنه لذاته لوجدنا أن الإنسان وإن نجح في الحفاظ على بقاء نوعه فهو مازال لم يحافظ على بقاء شخصه. وإن حافظ على بقاء شخصه لفترة أطول سنجد أنه عمر في الحياة كمًّا، لكن ما زال يضمحل كيفا. فالهرم والكبر في السن يجعلان بقاءه أبعد ما يكون عن كونه إنجازا في ذاته ليصبح بقاؤه كشيخ عجوز قليل القوة ضعيف الإرادة، همًا لا انفراجا إلا فيما قل.

إذن فمهما طال المطاف فالفناء حتمي ولو على المقياس الشخصي وإن كان الفناء على المقياس النوعي والأممي ممكن وله طرق الاستدلال عليه ولكن نكتفي بالتسليم بالفناء على المستوى الشخصي. ولأن الإنسان يعلم هذه القضية الحتمية جيدا ويعلم أثرها في نفسه. فهو مازال ذلك الكائن الخائف من المستقبل المجهول وما يحمله. ولانعدام قدراته مهما تعاظمت عن تفادي أو تغيير هذا المصير الأكيد فإنه يحاول أن يتعامل مع الضغط ولكن بطريقة مختلفة. فبدلا من محاولة انتزاع مصدر القلق فهو يحاول التعايش معه وتقبله قدر الإمكان. وفي حد ذات هذا القرار نجد أنه الحل الوحيد المتاح لحين –كما يزعم البعض- أن نجد العلاج والحل لهذا الموت الذي يعتبره البعض مرضا ليس إلا ولكن لم يكتشف الإنسان علاجه بعد وأن مع البحث والاستمرار سيجد الإنسان العلاج لهذا المرض فيحقق الخلود المادي في عالم الدنيا وينتهي الجدال في الكثير من المسائل الشائكة كالبعث والحساب وما إلى ذلك. فلو أن الإنسان تمكن من الخلود المادي الأبدي لانهارت أصرح كثيرة للفلسفة والرؤية الكونية. في النهاية فإننا وحتى اليوم لم نجد إكسير الحياة هذا. ولذلك فالإنسان يختار الحل البديهي وهو التعامل مع الموقف وتقبله بدلا من محاربته.

لهو الإنسان بالمكسب السريع واحتفاؤه به لينسى حتمية فناء المادة

واختلفت طرق الإنسان في التعامل مع هذه الفكرة. ويمكننا تصنيف طرق التعامل المختلفة في نوعين أساسين تفترق تحتهما الطرق لأنواع فرعية شتى لكن تشترك تحت كل نوع أساسي بسمة أساسية تجمعهم. فالتعامل مع مجهولات #الموت وما وراء الحياة كان عند الإنسان ومنذ قديم الأزل إما بالاستعداد والتزود لتلك الرحلة، أو بالإلهاء والتناسي. ولست في صدد مناقشة الدرب الأول. فهو درب له مقامه وموقفه الخاص. أما ما أود تحليله هو الدرب الثاني.

فالإنسان يجد في إنجازاته وسيطرته على الدنيا بقدراته التي يتميز بها ما يلهيه عن هذه الفكرة. كالأرنب الهارب من الذئب. الذي كلما انكشف ستره للذئب استتر بغصن جديد أو جحر أو مخباة من المخابئ ليبتعد عنه. ولذلك نجد في سير المتعلقين بالحياة والدنيا ومترفاتها ميلهم لكل ما يلهيهم عن تذكر حتمية المصير. فلياليهم للطرب والحفلات المبهجة وصباحهم مملوء بالأعمال والإنجازات والمغامرات التي تزهو بها أنفسهم وتتفاخر بها لتدعم إحساس الثقة لديهم بأنهم مازالوا بعيدين بصحتهم وقدرتهم عن نهاية المطاف.

وليس الهدف تقليل شأن أو تهميش تلك الأعمال أو المغامرات ولكن الهدف تقييمها. كما الإنسان في تقييمه للمسكنات والمخدرات. فالمخدرات مطلوبة في يد الجراح وممنوعة ومرفوضة في يد المدمن. لماذا؟ لأن الجراح يسكن بها الألم ليداوي المرض. أما المدمن فهو يخدر بها العقل والنفس ليعمق الجرح ويدمر نفسه أكثر. فكان المقياس هو الإنسانية من حيث هي معنى وهوية لا المادة من حيث آثارها المخدرة. كذلك المترفات والمغامرات والأعمال والإنجازات. لو فقدت بوصلتها وهويتها والغاية منها لم تتحقق منها المنفعة الحقيقية وإن اكتمل إنجازها، والعكس بالعكس.

اختزال الإنسان للحياة في تلك المكاسب الصغيرة التي نجح فيها “بوتقة الحياة”

علينا أن ننظر لهذا الدرب الفكري في التعامل مع واقع الحياة من حيث تقييم الإنسان السالك في هذا الدرب لوجوده. إن انبهار الإنسان بإنجازاته الشخصية مع علمه بقلة حيلته عن رفع القدر المحتوم عن كاهله يضطره نحو اختزال الحياة فقط في تلك الإنجازات. فيميز الإنسان وجوده من عدمه بمدى سيطرته على الدنيا وأثره فيها. ولكن ما الضير في هذا الاختزال؟ أليس هذا الاهتمام بالنجاح والتفوق محفزا لتطور الحضارة الإنسانية؟ أليس العمل على إعمار الأرض وتسخيرها للإنسان بالعلم والتكنولوجيا هدفا يستحق أن يكد الإنسان ويتعب من أجله؟… ماذا تريد؟ هل أنت تشجع على الكسل والاستسلام أو نوع من الوجودية الرومانسية أن ندع الأرض كما هي عليه دون تغيير وأن نكيف أنفسنا على الطبيعة لا العكس؟ إن هذا التفكير لو وجد في زمن رجل الكهف لكنا مازلنا نعيش في الكهوف حتى يومنا هذا.

هذا بلا شك بعض النقد الجاد الذي قد يوجه نحو هذا التحليل. لكنه نقد يفتقر للموضوعية من حيث أنه يتسم بالثنائية. إن السرد لا ينتقد سعي الإنسان للعمل في الأرض وتطوير حياته بالعلوم والفنون المكتسبة. بل نتساءل هنا عن الغرض والغاية من هذا السعي وهذه القدرة التي كما وضحنا يتميز بها الإنسان عن غيره. وليس يستلزم من انتفاء العلم بالغاية أن يتوقف السعي وكبح جماح عجلة التطور العلمي. النقطة الثانية هو أن السرد ينتقد اختزال وجود الإنسان فقط في هذه الأنشطة والإنجازات العظيمة والتي مهما عظمت يظهر من أبسط تأمل أنها لا تكفى وحدها لتكامل الإنسان لأنها ليست هي #السعادة التي تحقق التناغم الحقيقي مع حقيقة وجوده.

بل إن التسليم بعبثية وجوده مع هذا الكيف والكم العظيم في قدراته المختلفة هو ما يدعو للاستسلام والتكاسل. كيف تتوفر كل تلك القدرات بلا أي غاية كلية تكتمل بها رؤية الإنسان لنفسه وذاته؟ كالسيارة بلا طريق ووجهة تتجه لها. هناك من يقبل بالعبثية ونحن لا نلومه ولا نفرض عليه وجهة نظرنا الباحثة عن الغائية. ولكن هو أيضا لا يستطيع فرض وجهة النظر العبثية واللاغائية على عقول لا تستسيغها. وليعتبر وجود أفكار مغايرة لفكره هو وجود عبثي وغير مسبب إن كان حقا يؤمن بالعبثية.

مرور الزمن وضياع فرصة التغيير

وبعد أن تسيطر على الإنسان الأوهام الزائفة عن حقيقة الحياة التي اختزلها في مدى نجاحه المادي فقط “أنا أسيطر إذن أنا موجود”. يظهر عند اقتراب النهاية ويلوح في الأفق شبح الماضي القديم. ليذكره بقرب ميعاده وتوقف الزمن والوجود المادي بالنسبة له. هنا لحظة اليقظة. وياليته لم يستيقظ. فاليقظة هنا تأتي متأخرة بعد أن ضاعت الصحة والقدرات في تحقيق الأهداف الجزئية مع الغفلة عن إدراك وتحقيق الغاية الكلية الرئيسية. كالطالب ليلة الامتحان الذي أتقن ترتيب الأوراق والملازم والمحاضرات ولكن أهمل استذكارها. فهذا البنيان والترتيب الذي أجهد نفسه في إنجازه لا يعود عليه بفضل في الامتحان لأن الاستعداد الحقيقي والأساسي للامتحان يكون بالاستذكار. نعم إن ترتيب الأوراق مقدمة هامة وقد تكون ضرورية للاستذكار لكنها ليست كافية. فكذلك الإنسان لا يبحث فقط عن الشروط الضرورية للسعادة بل عن الشروط الضرورية والكافية. ليتحقق بسعيه الحد الأدنى من الإنجاز. أما اقتصار شروط السعادة على الإنجاز المادي فقط فهو إخلال بالشروط الكافية. فينهار البنيان في النهاية ولا يحقق غايته لعدم اكتماله.

الندم والحسرة

هنا وهنا فقط تتولد الحسرة ويتعمق الحزن على الوقت المهدر والطاقات المبذولة بغير ترشيد. وهنا بعد أن خارت القوى ووهنت العظام ويبست العضلات وضعفت الذاكرة يظهر المصير المحتوم كالرفيق في أفق البصر ويتمنى #الإنسان العودة لإصلاح ما كان منه ولكن للاسف بعد الفناء.

الخدعة بدأت بالنظرة المادية البحتة للوجود. واستكملت بالنظرة العبثية واللاغائية لتجربة الوجود. فانتهت بالسلوك المترف المتناسي للواقع المغيب عن الحقيقة. لتنتهي بفترات وجيزة من الفرح والزهو مع انقطاع إلى البؤس والتعاسة. فليقل لي من يسمع ويرى ما هو الفناء الحقيقي وما هو الخلود الحقيقي؟

خلاصة عملية

على الإنسان الواعي المفكر العاقل أن ينظر لوجوده…وأن يتساءل عن الغاية دائما. الوصول للحقيقة يبدأ بالتساؤل عن الغاية. فالسؤال عن الغاية يؤدي للتساؤل عن المنطلقات. والتساؤل عن المنطلقات يؤدي للتساؤل عن مفهوم الوجود وأصالته. وبإرجاع الأمور للعلل الرئيسية ينقشع الجهل ويظهر الحق جليا. ثم يعود الإنسان من منطلقاته نحو غاياته ليصححها وفي النهاية يحدد الدرب السليم أو السلوك نحو تحقيق غاياته. فالتفكير السليم هو السبيل نحو الأفكار السليمة. والأفكار السليمة وجودية (المنطلقات والغايات) ثم سلوكية (الوسيلة). وبالتالي فالأفكار السليمة تشخص السلوك السليم نحو السعادة الحقيقية.

وينبغي تطبيق هذا النموذج التفكيري في كل جوانب الحياة. أنا الآن اكتب هذا المقال… هذا سلوك. ما منطلقات هذا السلوك؟ ما غايتي من هذا السلوك؟ لماذا لأكتب لأجل الشهرة أو المال؟ للتفاخر؟ لنشر العلم؟ لتوعية الناس؟ لتغييب الناس وتعتيم عقولهم؟ ولماذا شخصت تلك الغاية؟ وبأي طريق استدللت على صحة تلك الغاية وضرورة السعي نحوها وترك غيرها من الغايات؟ ولماذا أختار لتحقيق هذه الغاية هذا السلوك بعينه (الكتابة)؟ هل توجد سبل أخرى؟ هل السبل الأخرى أنسب أم أن هذه هي الطريقة الأفضل؟ هل أنا أؤدي هذا السلوك بالإتقان الكافي أم أنني يجب أن أطور نفسي في نواحٍ فنية معينة (النحو والبلاغة وتنظيم الوقت …إلخ)؟

الإنسان دائما يراجع نفسه ويحقق معها كما المحقق مع المتهم في جريمة ما… يتهم نفسه بالتقصير ويسعي للأفضل في طول الغاية السليمة الشريفة وبالمنطلقات التفكيرية المرتكزة على أساس صلب وبالسبيل والسلوك المناسب للمكان والزمان. هنا فقط يكون الارتقاء وسمو الإنسان. فعمله لسمو عقله وروحه وبدنه، لا بدنه فقط. هنا فقط يكون الخلود في عالم الأفكار والعقل حتى وإن فنى الجسد. نجد ذلك جليا في أعمال الفلاسفة والحكماء والأنبياء والرسل العظماء والذين وإن لم يبق له وجود  و الفناء المحسوس في عالم الدنيا مازلنا نتذاكر كتبهم ونقرأ محاوراتهم بعد آلاف السنين.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

#بالعقل_نبدأ

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.