عندما نتآكل من الداخل.. ماذا يفعل بنا الاكتئاب ؟
ثمة موت مادي يحدث عندما يتوقف القلب عن النبض، وثمة موت معنوي يحدث عندما تتوقف الروح عن مقاومة الحياة والمضي قدما وتجاوز الألم. ثمة تآكل داخلي يحدث للإنسان عندما يقع في بئر أسود ممتلئ إلى آخره بذكرياته المؤلمة ونكبات ماضيه التي تعرض على شاشة عرض مكبرة في خلفية عقله، فيتوهم أحيانا بأنه ليس لعمق البئر انتهاء ولن ينتشله الحاضر من ماء الماضي الأليم التي تكاد أن تغرقه بأي طريقة تشاء.
ثمة مكبرات صوت تضج به من داخل رأسه وتقول له أنه يسير إلى هاويته وأن الحياة بلا معنى وأنه في النهاية لن يجد من مسعاه غير الخواء الداخلي وأنه لا شيء سيحدث ليغير الأحوال، فلِم لا يأخذ الحياة بكل ما أوتي من اللا مبالاة؟!
الاكتئاب
ربما هذا بعض من وصف ما يحدث بداخل مريض ب “الاكتئاب”، حزن غير عادي يؤدي إلى تآكل داخلي، لا مبالاة بالعالم الخارجي وتوحد مع عوالمه الداخلية، البعض قد يشعر بشعور عميق بالذنب، اضطرابات واضحة في أبسط مظاهر الحياة من نوم أو أكل أو حديث مع الآخرين أو رؤيتهم، فقدان للطاقة وضعف التركيز ولكن كيف نصنف بالتفصيل أن أحدهم قد أصابه اكتئاب!
علينا أولا أن نفرق بين نوعين من الاكتئاب فهناك اكتئاب يعرف كاضطراب نفسي مرضي وهو ذاك الذي نشخصه بمعايير طبية وهناك اكتئاب وجودي أو معنوي قد يشترك النوعان في بعض الصفات ويختلفان في صفات أخرى.
فأما الاكتئاب كاضطراب نفسي توجد له بعض الأعراض النفسية وأخرى جسدية. لكي يصنف الشخص بأنه مريض اكتئاب لا بد على الأقل أن يكون لديه أعراض نفسية مصاحبة لبعض من الأعراض الجسدية لمدة أسبوعين أو أكثر.
والأعراض النفسية تتلخص في:
*الحزن غير العادي بمعنى أنه يعاني من حزن بلا سبب موضوعي (كفقد أو فشل أو خسارة لعزيز) أو قد يكون تعرض لفقد أو خسارة ولكنه مر على هذا الحدث زمن طويل ومع ذلك ما زال يشعر أن الفقد أو الخسارة قد حدثت بالأمس.
*اللا مبالاة بالعالم الخارجي وفقد الاستمتاع بكل ما كان يحب، وتغدو حياته بلا معنى. وهنا نجد أيضا الفرق بين الحزن واللامبالاة، فالحزن وعلى الرغم من أنه عجز إلا أنه عندما يصيب الإنسان فهو يعد دليلا على أن الإنسان ما زال يقاوم الحياة ولكن على النقيض منه اللا مبالاة، فاللا مبالاة هي موت الروح بمعنى أن العالم يصبح مجرد لا شيء في عينه، فلا الفرح يسعده ولا الحزن يشقيه!
*البعض من مرضى الاكتئاب قد يعاني من شعور عميق بالذنب لأنه يشعر من داخله بأنه هو السبب في كل ما يحدث له.
وتتلخص الأعرض الجسدية في اضطراب في النوم (أرق أو هروب بالنوم الزائد) اضطراب في الأكل (انعدام شهية أو زيادة شديدة في الشهية) اضطراب في الكلام فيصبح قليل الكلام جداً وكأن الكلام ينزع منه انتزاعا لكي ينطق به، اضطراب في الحركة فلا يحب الخروج من غرفته أو الخروج من المنزل وفقدان للطاقة وفقد للتركيز.
ماذا عن رغبة المكتئب ؟
ولكن ربما سمعنا عن هذه الأعراض كثيراً ولكن هل يفعل كل ذلك برغبته!
بالطبع لا، فكلنا نعيش في واقع حقيقي وهو الواقع الذي نراه جميعاً ولكن لكل منا واقع نفسي خاص به يرى العالم من خلاله، والواقع النفسي لمريض الاكتئاب سوداوي بعض الشيء؛ وهذا ينتج عن بعض الأخطاء في طريقة تفكيره، فمثلاً هو يحمل حساسية كبيرة تجاه نفسه فتجده يفترض الظنون في الأشياء من حوله قبل أن يتعامل معها،
ويعمم خبراته السيئة على الحياة فإذا قابل شخصًا سيئًا ذات مرة حكم بأن جميع البشر سيئون أو قد يعاني من خطأ الانقسام الزائف؛ فيقسم من يتعامل معهم إلى صديق أو عدو فينهار في كل مرة لا يرى الصديق بشكل كامل ومثالي مع أنه كان بإمكانه من البداية أن يصنف الأشخاص والأشياء إلى أكثر من مجرد نوعين.
كما أن تفكيره انتقائي للأحداث السلبية، فقد تجد أُمًّا تعاني من الاكتئاب، ترعى أبناءها بشكل جيد جداً وتبذل لهم كل الوقت والجهد وعندما يحدث ويصاب أحد أبنائها بجرح صغير وهو يلعب تجدها انتقت هذا الحدث لتحكم بها على نفسها أنها أم سيئة وغير كفء ولا تصلح لتربية الأبناء!
هذا النوع من الاكتئاب قد يحتاج إلى دعم من مختص أو قد يستطيع الشخص تجاوزه بنفسه وهذا يتوقف على ما إذا كان الشخص الذي يعاني من الأعراض قادرًا على التأقلم والتجاوز أم لا، ويتم تحديد ذلك من مدى كفاءة الشخص وإنجازه في بيئته المهنية وبيئته الاجتماعية، فإذا كان يعاني من التدهور في كلا الجانبين المهني والاجتماعي ولا يستطيع تجاوز أو حل هذا التدهور فهو بحاجة إلى تدخل ومساعدة من مختص.
فقدان المعنى
أما النوع الآخر من الاكتئاب هو الاكتئاب الوجودي أو المعنوي وهذا للأسف ينتشر بدرجة كبيرة في الفترة الحالية؛ حيث إنه يأتي نتيجة للشعور باللا جدوى وأن مجريات الأحداث في العالم تسير في اتجاه لا يؤدي إلى الطمأنينة وأن الحياة لا معنى أو غاية منها بسبب فقدان المعايير التي تحكم العالم أو عدم وضوحها.
كل ذلك يؤدي بالشخص أنه لا يفهم أو لا يعرف ما هي غايته التي يسعى من أجلها في تلك الحياة، وذلك يظهر في أنه يحاول أن يؤدي كل المطلوب أو المتوقع منه لكي يصبح ناجحاً ومتوافقا ومع ذلك فهو لا يصل إلى النجاح أو التوافق فيشعر بالعجز، وقد يشعر بالغربة والوحدة إذا كان الجمع المحيط به لا يشاركه الشعور أو رؤية الحياة بنفس الطريقة التي يراها بها، كما قد يعاني من اليأس الوجودي وأنه يسير إلى طريق لا يجد منه جدوى أو غاية في نهاية المسير.
من الأمور التي قد تجعل البعض يصاب بهذا النوع من الاكتئاب هي الحروب ومشاهد الظلم والقتل والاستبداد فكل هذا قد يجعله يفقد الثقة في ما يؤمن به أو يسقط في بئر من التيه والأسئلة المتعجبة من نوعية، كيف يحدث هذا ولماذا!
العلاج
أن محاولة معالجة هذا النوع تحتاج إلى جهد ووقت وأساليب قد نحتاج أن نتحدث عنها في موضوع منفصل.
ولكن إجمالا فإن أفضل طريقة لمحاولة علاج هذا النوع الوجودي من الاكتئاب هي محاولة الشخص أن يجد أو يبحث عن رؤية للعالم والأشياء من حوله تكون أكثر عقلانية بدلا من تلك الرؤية التي لا تعتمد على الأدلة الواضحة، فعليه أن يعيد معرفة وتحديد المعاني المرتبطة بالحياة والوجود حوله من جديد لكي يصل لفهم أعمق من سبب وجوده فلا يشعر بتلك اللا جدوى أو اللا طمانينة التي تجعله يتآكل من الداخل.