عودة الروح.. كيف نصنعها – الجزء الثالث
ثانيًا: كيف نصنع “عودة الروح”؟
يمكننا أن نوجز الإجابة عن هذا السؤال في الآتي:
الوعي
لا شكَّ أنَّ الوعي أسُّ الأساس الذي ترتكز عليه عودة الروح، كما قال ألبير كامو: “كلُّ شيءٍ يبدأ بالوعي ولا قيمة لشيءٍ من دونه”، نقول نعم، هذا حقٌّ وعدلٌ، لأن هذا ما سيتمخض عنه استقراء الواقع في الإنسانية كلها، لذلك تدرك كيف يخشى المستبدون والانتهازيون في العالم كلِّه، الوعي الحقيقي القائم على سلامة الفهم، ودقة إدراك الحقيقة، وما ينبغي أن يترتب عليها، فالوعي حيويٌّ، وحركيُّ، ووثَّابٌ، وهو كاشفٌ للواقع، وفاضحٌ للاختلالات، ومن هنا يبعث على الرفض، ويحث على التغيير.
الإرادة
هي نزوع النفس العاقلة صوب شيءٍ ما، أو بالأحرى نحو هدفٍ محددٍ تريد إنجازه. والإرادة التي تنشأ عن وعي دقيقٍ، وإدراك سليمٍ، تعمد أول ما تعمد، إلى مقاومة اليأس، ومحاربة القنوط، وتوطيد روح الأمل، وبثِّ التفاؤل في أنفس الناس عامة، تمثلًا لبيت الطغرائي:
أعللُ النَّفسَ بالآمالِ أرقبها ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأملِ.
الإرادة الصُلبة ترتبط بشخصية البطل المخلص، والقائد الراشد الذي يستطيع عبر مَلَكاته المؤثِّرة أن ينقل الناس من حالٍ إلى نقيضها، وأن يُلهمهم سُبُلَ النجاح وطرائق الفوز والتميز، وأن يقودهم إلى تحقيق الأهداف المشتركة عن اقتناعٍ وحبٍّ حقيقيين، لذلك قالت العرب قديمًا: “المرء بأصغريه: قلبه، ولسانه، إن صالَ صالَ بجنانٍ، وإن تكلَّم تكلَّم ببيانٍ”.
الحُلْم (المشروع الكبير)
لا عودة لروح الفرد أو الجماعة من دون استحضار حُلْمٍ يشغف الإنسان العربي بتحقيقه، ويسعى جاهدًا للعمل له. إنَّ الناس في حاجةٍ ماسةٍ إلى حُلْمٍ وطنيٍّ وقوميٍّ حقيقيٍّ، تستمسك به، تبثُّه آلامها، وأشجانها، وتودعه آمالها ومآربها، كي يُخرجها من غياهب اليأس إلى أَلَقِ النور، وفسحة الأمل الوضيء.
الحُلْم هنا يتعلق بالرؤية التي تدرك أين نحن الآن؟ وما واقعنا؟ وما معطياتنا وإمكانياتنا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ وكيف الخروج من التيه الذي نحن فيه؟ وأنَّى لنا أن نحوَّل ذلك كلَّه إلى خطة عملٍ واقعيَّةٍ يمكن تحقيقها، ومراقبة تنفيذها بدقةٍ، وتقييمها بشفافيةٍ دون مناورةٍ ماكرةٍ أو دعايةٍ فارغةٍ؟ إنَّ من حقِّ الإنسان العربي أن يحلم، بل له أن يتطاول في بنيان أحلامه، وتضاريس طموحاته العراض. لكنَّ للحلم شروطًا لعلَّ أولها المشروعية، ثم الواقعية، ثم الصدق والعلم، والأخذ بالأسباب، والإدارة الرشيدة، والثقة المترعة بيقين الشفافية ومحاسبة الفاسدين، وعدالة التوزيع، وضمان كرامة جميع المواطنين.
العزم والهمَّة
العزم: الرصيد الذي تمتاح منه الإرادة الواعية، والهمة: متكؤها الذي تستند إليه، وتحتمي به. والعزائم ترتبط بالمقاصد، بل هي أعلاها وأسماها، وهي انعقاد القلب وتصميم النية على إنجاز أمرٍ ما بكفاءةٍ واقتدارٍ مهما كانت العقبات والعثرات. وهذا شأنٌ يستلزم الصبر والمثابرة، ويقتضي تحمل النائبات وتجرع المكاره. لذلك كان العزم من صفات صفوة الأنبياء والرسل عليهم السلام: نوح، إبراهيم، موسى، عيسى، محمد. وبهذه الحيثية كان الخطاب القرآني للنبي صلَّى الله عليه وسلم: “فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ”، كما كانت إشكالية آدم عليه السلام أنَّ الله عهد إليه ولم يجد له عزمًا: “وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا”، كما كان الصبر والعزم من عيون وصية لقمان لابنه: “وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ”، كما كان العزم من شيم العظماء الخالدين على نحو ما استقرأه المتنبي في مطلعه الرائع:
على قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائم وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارمُ
وتعظمُ في عينِ الصغيرِ صغارُها وتصغرُ في عين العظيمِ العظائمُ.
ليس من شكٍّ أن الرأي والإرادة يرتبطان بالعزم ورباطة الجأش كما قال الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور في بيتيه الشهيرين:
إن كنتَ ذا رأيٍ فكن ذا عزيمةٍ فإنَّ فسادَ الرأي أن تترددا
ولا تمهل الأعداءَ يومًا لغدرةٍ وبادرْهم أن يملكوا مثلَها غدا.
لقد نبَّه أبو الطيب على خصيصة الهمة في القادة والملوك، وجعل منها شيمةَ مدحٍ جوهرية كما في قوله في مدح عضد الدولة البويهي:
تجمَّعت في فؤادِه هممٌ ملءُ فؤادِ الزمانِ إحداها.
أو قول أمير الشعراء:
ولي همامةُ نفسٍ حيثُ أجعلُها لا حيثُ تجعلُها الأحداثُ والنُّوبُ
لها على عزَّةِ الأقدارِ إن مطلتْ حلمُ الليوثِ إذا ما استأخرَ السلبُ.
وغير ذلك كثير مما لو شئناه جردًا وحصرًا لأعيا مقالنا هذا، ولكن حسبنا وحسبك ما أشرنا إليه منه.
الثِّقة
الثقة في صميمها اعتقادٌ جازمٌ، أو يقينٌ لازبٌ يقوم في النفس، ويطمئن إليه القلب، ويقتنع به العقل بعد تدبرٍ وتمحيصٍ وتجريبٍ، تجاه أمرٍ، أو فردٍ، أو ما عداهما من الجماعات، والأشخاص، والقيادات. إنَّها ضربٌ من الإيمان يعتري الإنسان، ويستوثق من مَلَكَاته الإدراكية فيملؤها عن آخرها. والثقة لا تنهض على شيءٍ أكثر من نهوضها على التواضع، وخفض الجناح للآخرين، والرفق بهم، وعلى الصدق في النية، والقول، والعمل. وهي معيارٌ شديد الحساسية، إذ يتأثر بأقل الذبذبات، ويهتز بالأقاويل والأباطيل، لذلك يتحتم على أولي الأمر في شأنٍ ما صون الثقة، وحفظها من التلوث والبَدَد بعوامل شتَّى. والثقة التي تستلزم “عودة الروح” إلى أمَّةٍ من الأمم، بمنزلة عقد شعوريٍّ وأخلاقيٍّ يُبرم بين الطرفين: الواثق، والموثوق به. وأي خلل في بنود هذا العقد تترتب عليه آثار تتلظى في دخيلة الأنفس، وتنطق بها الجوارح، وتتجسد عبثًا في الأعمال، وحِممًا في الرفض والتمرد.
إنَّ الثقة التي نرومها، مرتبطة بالعزم ارتباطها بالصدق. من هنا كانت الثقة رصيدًا ثَرًّا غير ملموس بلغة المحاسبة، شأنها في ذلك شأن الشهرة. لذلك يستلهم منها القادة العظام مفاتيح النصر، ومنابع الإبداع، ويتكئون عليه مليًا حالَ التضحية، والفداء، والمسؤولية، وهي رأس مالٍ غير مرصود يغنمه أولو الأمر فينفقون منه وقت المحن، ويرتكزون عليه في تصبير الناس زمن الأزمات والنكبات والنوازل الداهيات. ولست أحسب شأنًا يلتمس طريقه إلى النجاح والفرادة والتميز من دون ثقة حقيقية، وصدقٍ صادقٍ يوطد لذلك النجاح، ويستجلب التأييد والنصرة. قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لأعرابيٍّ ذات يوم: “إن تصدق اللهَ يصدقك”، وقال الله تعالى: “فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ”.
هذه سُبُلٌ خمسةٌ تمثِّل مفاتيح لـ”عودة الروح” لأي فردٍ أو لأية أمةٍ من الأمم، وليس يعتريني شكٌّ في أن الشأن كبيرٌ ويقتضي فضاءً أكبر بكثير من فضاءِ مقال وجيزٍ، لكن حسبنا من الشأن برمته، أننا دلونا فيه بدلونا، وأننا دَلَلْنا عبر رؤيتنا الخاصة، على أول الطريق.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا