الطـوفـان
يستطيع كل منا أن يتكلّم بكلام هادئ وتنظير مُرتّب جميل يرتقي أحيانًا إلى البرود، في وقت سخونة المواقف واحتدام المعارِك، هذا ناتج وبكل بساطة أن الذي يده في الماء ليست كالمُنغمسة في النار، لهذا ينبغي قبل الحكم على الآخرين أن نضع أنفسنا مكانهم حتى يكون الحكم صائبًا.
ومنذ أن أطبق الاحتلال الغاصب على فلسطين التاريخية وأحكم سيطرته على مفاصلها ولم تهدأ لها جذوة، ولم يخبت لها سعير، وتقف على قدم واحدة لأن أهلها في رباط إلى يوم القيامة.
من الطبيعي مع كل احتلال تظهر أصوات تنادي بالحلول الدبلوماسية والندوات والمؤتمرات والجلوس إلى طاولة المفاوضات، والخروج باتفاقيات ومعاهدات، وهذه الفئة في الغالب تكون صاحبة نَفَس طويل لأسباب كثيرة، ويظهر صوت آخر ينحى منحى المقاومة، ويرفع شعار”ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة”، و”لا يفل الحديد إلا الحديد”، وهذه الأصوات يقلّ السالكون معها لأن خيارهم صعب وطريقهم مملوء بالأشواك والدماء والأشلاء، ومن هؤلاء الذين نهجوا هذا النهج بعض الفصائل الفلسطينية على رأسهم “حماس والجهاد”.
إنّ الغاصب للأرض والناهب للخيرات والمستحِل للعِرض جبان، ولا يهنأ بالعيش على الرغم من توفير سُبُله، ويخاف كل شيء حوله ويحسب حسابًا لكل كبيرة وصغيرة.
لقد حَصَرَ الاحتلال وعزل قطاع غزة بريًا وبحريًا وجويًا، الذي يُعد من أكثر المناطق ازدحامًا بالسكان في العالم، ومعظم حركة حماس وذراعها العسكري “كتائب عز الدين القسّام”، وحركة الجهاد الإسلامي وذراعها العسكري “سرايا القدس”، لـ17 عامًا، يتحكّم في الداخل والخارج، والمياه والكهرباء والمحروقات والخدمات، إلخ، وغفل تمامًا أن الحِنق والضغط يولّدان الانفجار والإبداع على السواء، يقول المثل الصيني: “في القارب الواحد تتوحد الجهود”، تأقلم أهل القطاع وتعايشوا، والأهم عدم نسيان العدو الأساسي الذي يُدنس المسجد الأقصى ويستبيح المحرمات.
جهزت المقاومة نفسها بإمكاناتها المتواضعة وبعقول قياداتها الذين عضّهم الدهر بِنَابه، وقضوا سنين طويلة في سجون الاحتلال، وذاقوا مرارة النكبات المتتالية والمجازر التي لا تتوقف ليل نهار.
في فجر يوم مشمس جميل، غائم على إسرائيل، فوجئ العالم أجمع بانطلاق مئات المقاومين بأساليب مُبتكرة محلية الصنع أذهلت الخبراء العسكريين، حتى أن إسرائيل نفسها لم تستوعب الصدمة إلا لاحقًا، واتفقوا على تسميته “طوفان الأقصى”.
انقضّ المقاومون على مستوطنات غلاف غزة الذين تركتهم حكومة الاحتلال يعيثون في الأرض فسادًا، يستولون على الأراضي ويقتلون أصحاب الأرض الأصليين، وعلى فِرقة غزة المتخصصة في التنكيل بغزة وأهلها باستباحتها في الوقت التي تشاء: بهدم الأبراج التي بنتها المعونات، وتدمير البنية التحتية، والمساجد والكنائس والمستشفيات والمدارس والجامعات، وقتل وإبادة الأبرياء الآمنين بدم بارد من غير رقيب أو حسيب تحت شعار القضاء على حماس.
بخطة مُحكمة مدروسة، عَبر بعضهم الجدار الفاصل بطائرات شراعية يدوية، ومنهم مَن أحدث ثُقبًا في الجدار نفسه الجاثم على صدورهم منذ سنوات، مما سهّل دخول السيارات والدراجات البخارية.
أمعنت المقاومة القتل والتنكيل بالجيش الذي لا يُقهر، والمُدجج بأحدث الأسلحة، والأسطورة الفارغة الكاذبة، أين ذهبت المخابرات والحراسات؟! “وكذلكَ أخْذُ رَبِكَ إذا أخَذَ القُرى وهي ظالِمَة إنّ أَخْذَهُ أليمٌ شديد”، ودخل بعضهم في العُمق الإسرائيلي واشتبكوا لأيام عدة، وساق بعضهم قرابة 120 أسيرًا إلى داخل القطاع، للمفاوضة والمساومة بهم لخروج أسرى فلسطينيين داخل السجون.
استعاد الكيان المحتل نفسه واستفاق، وبتأييد مُطلق من أمريكا وبعض دول أوروبا، بدأت إسرائيل حربها الضروس الطاحنة بكل ما أوتيت من قوة، فأتت على الأخضر واليابس، في مقابل بعض الأسلحة المتواضعة في يد المقاومة.
إنّ مسرى الرسول يستحق الذود عنه بكل غالٍ ونفيس، ويستحق التضحية من أجله، وعدم التعويل على العالم الذي صمت وخَنَس وانكشفت سوءاته أمام الخوف والمصالح المشتركة، ولم تهتز المشاعر أمام آلة القتل والدمار الجهنمية الصهيونية، صمتَ العالَم الذي ينادي بحقوق المرأة والرأفة والرحمة بالحيوان، والمناداة بالمناخ الأخضر وتحسين المناخ والمحافظة على البيئة والعيش بكرامة، كل هذا ذهب أدراج الرياح.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا