عملية التربية بين الرب والإنسان وقداسة من يحملها
قداسة العناية الإلهية تجسدها عملية التربية التي يقوم بها أي مُربي فقد سمي الرب من يربي.
تعريف التربية لغوياً واصطلاحا
لغوياً:
التربية لغة من الفعل ربَّا أي نما وزاد.
اصطلاحا:
عملية تنشئة الشخصية المتكاملة المتزنة القادرة على اكتساب المهارات والقيم والاتجاهات والأنماط السلوكية البناءة وعلى التعامل مع البيئة المحيطة بكل مكوناتها في مكان وعصر معين.
تعريف أفلاطون للتربية
(إنّ التربية هي أن تُضفي على الجسم والنّفس كل جمال وكمال ممكن لها)
رؤية الشيخ الرئيس “ابن سينا” للتربية
و أكد الشيخ الرئيس “ابن سينا” ضرورة أن يستغل المعلم ميول الطفل الداخلية من أجل تعليمه وأن يُهيئ الجو الأخلاقي الذي يُجنب الطفل اكتساب الشرور، وأن يحميه من قرناء السوء، لأن الطفل إذا خالطهم تشرّب بأخلاقهم دون أن يدري.
ولمّا كان ابن سينا يعتقد في «الحكمة» ويرى أنها أشرف العلوم على الإطلاق وأن الحكماء هم أعلى الناس مرتبة، فقد اهتمّ بتربية الحكيم، ووضع المناهج التعليمية لإعداده بكل ما يتضمنه ذلك من تنمية القدرة على فهم البيئة والتعامل معها والسيطرة عليها والانتفاع بها إلى أقصى حدّ ممكن، تحقيقًا لاستمرار نمو الفرد والمجتمع وازدهار البيئة.
ويعتبر الشيخ الرئيس أن الإنسان هو محور العملية التربوية، وجميع الممارسات التربوية تؤول إلى الإخفاق ما لم تبن على فهم واضح وصحيح لماهية الإنسان وخصائصه.
ويرى “ابن سينا” أنّ للتربية الأخلاقية شروطًا ينبغي توافرها وهي: «محبة الصدق والعدل، والعفة، والقناعة والسخاء والشجاعة والصبر والحلم، وكتمان السرّ، والعلم والبيان والفطنة والرحمة والحزم والتواضع والخير وتصفية النفس من الشوائب التي في المادة وشواغل الحسن، وأن يكون الفرد جيد الفهم والتصور، محبًا للصدق وأهله والعدل وأهله».
يميل “ابن سينا” إلى أنّ الإنسان يولد على الفطرة، ويكتسب صفاته النفسية والخُلقية من المجتمع بمؤثراته الثقافية المختلفة، وهذا الإنسان يتغيّر ويتشكل وفق مؤثرات البيئة ونظمها التربوية. ويقول ابن سينا: «الأخلاق كلها الجميل والقبيح هي مكتسبة».
والإنسان عنده عبارة عن بدن ونفس تحرك هذا البدن، والإنسان إنسان ببدنه ونفسه معًا، أو بالمادة والصورة في الوقت ذاته، وأن الجسم والنفس متصلان اتصالاً وثيقاً متعاونان دون انقطاع، ولا تفارق النفس البدن إلا بالموت…».
ويشير المؤلف إلى أن الشيخ الرئيس أكد على أن الجمال هو صنو للحقّ والخير، وأن حسن الجمال طفرة في الكون، لأن خالقه اتصف بصفات الجلال والجمال، وأن التربية الجمالية لها أهميتها القصوى في تربية الإنسان، وهي ليست منعزلة عن سائر أنواع التربية الجسدية والعقلية والخلقية.
البيئة المحيطة بالإنسان وأثرها في عملية التربية
فالعملية التربوية مطبوعة على البحث عن أصل كل شيء وعلته دون أن يقتصر على الانقياد والتقليد، وأن العقل يستعين بالمدركات الحسية بعد أن يجردها من علائق المادة في تكوين بديهيات تصلح أن تكون مقدمات لمعرفة عقلية جديدة، والمنطق هو الآلة التي تعصم العقل من الوقوع في الخطأ، والعقل جوهر مستقل فطري في كل إنسان ولكنه يقوم بالتعلم.
يري “الفارابي” أنه من أجل تحقيق السعادة في الحياة الدنيا والحياة الأخروية، لا بد من بلوغ الفضائل التي يتوصل إليها الإنسان عن طريق الخبرة والتعلم والتأديب، فهي هيئات نفسانية أو استعداد دائم لفعل الخير وقد تكون فطرية أي متكونة في طبيعة الإنسان منذ نشأته، أي أن الأفكار الفطرية لم تستمد من التجربة وتقابلها الأفكار المكتسبة.
وعليه تنقسم هذه الفضائل إلى قسمين: منها ما هو متعلق بالنظر والتأمل أي مختصة بالجزء الناطق للإنسان مثل الحكمة والعقل والذكاء والفهم، ومنها ما هو خُلقي مثل العفة والشجاعة والسخاء والعدالة. (1)
ومما تقدمنا به نجد أن الإنسان بشكل عام تتشكل طبيعته الأخلاقية والفكرية نتيجة مجتمعه وما خضع له من عملية تأثير من أفراد ذلك المجتمع وعلى رأسهم أولياء أمره (سواء كانوا والديه أو ما ينوبهم)
ولأن الإنسان في تلك العملية كان هو المفعول به أي أنه المتأثر بما يطرأ عليه من اختلاف للفطرة، أي باكتساب فضائل معينة وفقد أخري فكان أولي وجوبًا وجود راعي يتصف بسلامة الأخلاق وحكمة العقل ليرشده إلي ما ترتقي به نفسه وتتكامل، بحيث تكون العملية في إطار عادل ، متيقن رشد وصلاح من يقوم بها.
حيث يكتسب الفرد معرفة بنفسه ومعرفة بواقعه وخالقه فيحسن التفاعل في واقعه المادي بالقدر الذي يقضي له حوائجه المادية وفق مبدأ العدل، فتتكامل روحه من خلال ذلك التفاعل، الذي كان عملية تطبيق لما تعلمه من معارف وفضائل نظرية.
حاجة المجتمع الإنساني للمرشد والمنهج السليم
ولأن عملية التكامل تلك من متطلباتها معارف تغيب عن العقل الإنساني كإدراكه طبيعة تهذيب نفسه وإكسابها القيم والفضائل أو ما يوافق فضيلة العدل من سلوك بينه وبين إخوته بالمجتمع ، وذلك لأنه بكل بساطة لم يخلق نفسه ولا يبلغ من العلم عنها إلا قليل القليل أي لا يحيط بكنهه وطبيعة واقعه،
فكانت إرادة الله وحكمته بأن يبعث فيهم من يتولى أمر تلك المسألة ليس فقط عملية الإرشاد والتربية وحسب، بل كذلك عملية القيادة لذلك المجتمع الإنساني بصفته الأعلم فيهم والمعين عن طريق الخالق الأعلم، فمدرك بطبيعته على المستوي الكلي والجزئي ما يجب أن يكون، بتطبيق حكيم لمنهج الخالق وقدرة حكيمة على تفصيل الأحكام وفق الظروف والأماكن والأشخاص المختلفة ، وذلك لامتلاكه من الحكمة العقلية والطهر النفسي الجامع لكل الفضائل ما يجعله أهلاً لتلك المكانة التي بمثابة شمسًا لتلك النفوس تنير لهم دربها نحو سعادتهم.
ولأن النفس الإنسانية جاهلة بنفسها وخالقها وواقعها، يدفعها ذلك الجهل إلي إحداث الفساد في واقعها؛ بما يعود بذلك الضرر عليها وعلى غيرها ،فكان من الظلم أن يترك المجتمع الإنساني بتلك الجهالة ومن الظلم أن يحدث ذلك وهذا محال على الله الحكيم العادل، فأوجد فيهم منهم ما هو أشد قربًا إليه وأقرب من أن يكون طبيبًا للروح يعلم قصورها وضعفها وجهالتها؛ فيمنحها تعليمات خالقها وسبل ارتقائها ويقي الناس شرور الطغاة وبالتالي ارتقاء المجتمع الإنساني ككل.
ولأن الإنسان جسد وروح أي لكل جانب منه حاجاته التي حتمًا من البداهة أن تتناغم ولا تتعارض؛ فما يصيب الجسد من كسب ويخالف ما تتكامل به الروح حتمًا يفسد الاثنين معًا ويصيب كليهما بالأثر السيئ؛ فيأتي دور وجوب وجود منهج سليم يمنح الإنسان معرفته بنفسه وما يرتقي بها ومعرفته بالواقع وما يتطلبه منه فعله ومعرفة الخالق وما يستوجبه عليه من شكر وسعي وتسليم واتقاء.
ما هو دوري في تلك العملية؟
لا يمكن أن يكون الإنسان جاهلاً بكل شيء؛ فهو جاهل من وجه لعدم إحاطته بالكثير من الأمور وعالم من وجه آخر لإحاطته ببعض الأمور ومنها نصل إلى أن هناك دائما من هو أعلم وصولاً إلى العالم الأوحد خالقنا سبحانه وهو ما يشحذ في النفس همة وجوبية ويقيم عليها مسؤولية مهمة، فإن كنت ذا عقل واعي أدركت مواطن جهلي ورجعت بعد ذلك لمن هو ثقة ليرشدني فيما لا أُحط به علمًا، أما فيما أنا أعلمه وأتيقن صحته بالأدلة؛ فإني مسؤول مسؤولية كبيرة.
أما الحق سبحانه على نقله ولكن وفق الظروف فمثلاً كوني صديق يري فعلاً خاطئًا من صديقه؛ فيتوجب عليَّ نصحه طبعًا بالطريقة والتوقيت المناسبين، وكوني معلمًا فالدور يعرف ها هنا عن نفسه ومدي اتساع دائرة الواجب فيه، وكوني أب أو أم أو أخ أو أخت أو قريبا أو زميلا فكلاً منها تستوجب مسؤولية وفق طبيعتها.
فمن الطبيعي أن ترصد أعيننا الكثير والكثير من الأثر السيئ الناتج في واقعنا من سلوكيات وأفكار مغلوطة انتشرت وتوسعت أطر تأثيرها داخل المجتمع تمامًا كالعدوى، ولأن ذلك التأثير السيء الساكت عنه ناصر له وسامح له بالازدياد والانتشار؛ فالواجب هنا يعلن عن نفسه فلابد أن يتم تخطئة أي سلوك أو فكر خاطئ وكذلك يتم النشر والنصح بالسلوكيات والأفكار السليمة حتي تغلب على واقعنا إن أردنا حقًا تغييرًا يوافق إرداة الحق ليمنحنا بها سلامًا وأمنًا.
فيستمر الواجب والمسؤولية بإيصال أي معرفة وأخلاقيات تعلمها إلي الآخرين وطبعًا بالموازاة مع مراقبة نفسك ومحاسبتها على تطبيق ما تعرفه وتهذيب نفسك وتربيتها عليه، فلا خير في مجتمع لا يحدث فيه هذا التدافع، ولا خير كذلك في أناس لا يوجد لديها ذلك القابل من أي ناصح أو رأي حسن.
اغرث بذرتك في أي أرض؛ فما يدريك من ذا الذي يسقيها؛ فلا ضياع لجنيك إن سبقك أو سبقته فهو لا محالة مدركك ومنجّيك.
المصادر:
(1) إبراهيم دكور، المعجم الفلسفي، الجزء الثاني، جمهورية مصر العربية، الطبعة الأولى، القاهرة، 1983، ص101.
اقرأ أيضاً:
التربية العربية والمنظومة القيمية الغائبة
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا