الرواية الطويلة .. لماذا نكتبها؟
سألني أحد النقاد: لماذا تكتب رواية طويلة؟ وكان يشير في سؤاله هذا إلى روايتيَّ “سقوط الصمت” و”جبل الطير”، فقلت له ابتداء، لم أقصد كتابة رواية طويلة حين شرعت في “جبل الطير”، لكن قانون تداعي الأحداث والمعاني، وتعدد الأمكنة وامتداد زمن الرواية لآلاف السنين عبر ترحال بطلها في القرون الغابرة وصولًا إلى أيامنا، جعل الرواية تتسع أمام قلمي، وأنا ألهث وراء بطلها الجموح، وأمعن النظر في مراجع وكتب تخص مختلف الحقب التاريخية والطبقات الحضارية المصرية حتى يكون بوسعي تدقيق سياقات الرواية، من حيث صور البيئة وطبائع الناس ونوع الأزياء، وشكل الطقوس ومضمونها والأساطير الشعبية المتداولة والرموز الدينية المعروفة والراسخة.
أعتقد أن كل رواية تختار لغتها وبناءها أو شكلها وكذلك حجمها، وكما أن لي روايتين طويلتين “جبل الطير” و”سقوط الصمت”، فلي روايات حجمها أقل من هذا بكثير، أحدها –وهي “حكاية شمردل”– لا تزيد صفحاتها عن التسعين، وبقية رواياتي متوسطة الحجم تقريبًا، ما عدا “شجرة العابد” التي يمكن أن يقال إن حجمها فوق المتوسط، لأنها تربو على الأربعمائة صفحة.
رواية جبل الطير
قد يظن البعض أن “جبل الطير” رواية كبيرة الحجم أو طويلة، لكن كان من الصعب معالجة موضوعها فنيًا دون تحديد الخلفيات وسرد التفاصيل، والرواية عموما في جانب منها فن صناعة التفاصيل، والعبرة في النهاية بما إذا كانت الرواية مُحكمة من عدمه، فإذا كان من الممكن حذف أجزاء من الرواية دون إخلال بمضمونها وسير أحداثها فهذا معناه أن الطول غير مبرر، وأن الكاتب قد أشبع سرده حتى صار متورمًا. أما إذا كان أي حذف يخل بالمعنى وسير الوقائع الروائية فهذا معناه أن الكاتب معذور في إطالته، أو أن هذه الإطالة مبررة، لأن المعالجة الفنية والمضمونية فرضت هذا عليه.
كما أن القارئ يمكن أن يجد صعوبة في قراءة رواية قصيرة الحجم لكنها معقدة أو غير مترابطة، أو لا يشعر بالمتعة وهو يطالعها، وقد تتيسر أمامه القراءة، رغم طول الرواية، إن كانت جيدة من الناحية الفنية وجذابة وممتعة، بل هناك من القراء من يتمنى، مع متعة النص الذي يطالعه، أن يمتد إلى ما لا نهاية.
الحمد لله فإن كثيرين ممن قرأوا “جبل الطير” سواء من بين القراء أو النقاد أخبروني أن كبر حجمها لم يرهقهم لأن الأحداث كانت تجذبهم، وهذا أسعدني بلا شك، لكن أعتقد أن قراء آخرين لم يصلوا إليَّ وأصل إليهم ربما لديهم رأي آخر. والرأي الآخر هذا كان للناشر أيضًا، الذي لديه مقياس تجاري يقول إن الروايات الأكثر توزيعًا تلك التي تتراوح صفحاتها بين مائتي وخمسين وثلاثمائة وخمسين صفحة، لأنها تمنحه فرصة جيدة كي يضع عليها سعرًا مناسبًا بعد حساب التكاليف، ومن ثم يكون شراؤها في مقدور عدد أكبر من القراء. لكن هذا لا يمنع الناشر من أن يتغاضى في بعض الأحيان عن منطق السوق، وينظر إلى الرسالة التي عليه أن ينهض بها حيال مجتمعه، أو أن يكسب كاتبًا يفيد اسمه دار النشر.
رواية سقوط الصمت
أما “سقوط الصمت” رواية وصفها النقاد بأنها “مشهدية”، وقالوا إنها “رواية الثورة” أو “ثورة في رواية”، ومن ثم اتسعت صفحاتها بقدر اتساع حدث هائل شاركت فيه أخلاط من البشر، وصُنعت فيه ملايين المشاهد، وكان عليَّ أن أمعن في الوصف وتمثيل كافة الشخصيات والنماذج البشرية الموجودة، حتى إذا جاء جيل لم يحضر الثورة وقرأ الرواية فإنه سيكون قادرًا على الإلمام بها كأنه عاشها، ويزيد على ذلك أنني أكتب رواية وليس عملًا تسجيليًا أو تأريخيًا، الأمر الذي يجعل للفن حظًا كبيرًا في البناء والمضمون، وهذا أيضًا يستهلك صفحات وصفحات.
لا يضني الكاتب أن يكتب رواية طويلة أو قصيرة، لكن يضنيه أن يكتب عملًا ويشعر أنه ناقص، أو كان يحتاج إلى مزيد من التجويد، ولذا لا يجب عليه أن يكف عن إعمال قلمه في نصه حتى يشعر برضاء عنه إلى حد ما، لكنه عليه ألا يفقد الطموح في كتابة نص أفضل، وأن يجعل الخط البياني لإبداعه يسير في اتجاه متصاعد، ففي الكتابة لا تنفع القناعة ولا الزهد كما هو الحال في الثروات والجاه والشهوات.
مقالات ذات صلة:
رواية “مدد”.. ما تخلخله السياسة يثبته التصوف
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا