براح .. في الهامش ستجد العمين سعيد ولويس!
ما الذي تستدعيه كلمة “الهامش” في رأسك؟ هل هذه الكلمات المكتوبة أسفل الصفحة، التي لن تنظر إليها غالبًا، وإن نظرت إليها فإن نظرتك لن تخلو من استخفاف أو عدم اهتمام؟ هل تلك الكلمات التي ستدونها بنفسك أثناء القراءة، وربما لا تعود إليها،
وحتى إن عدت، فإنك في أغلب الأحيان لن تتذكر ما كنت تعنيه بها؟ هل تستدعي ما تدونه بقلمك الرصاص في الصفحة الأخيرة وأنت تجيب عن الامتحان، دون أن تنسى أن تكتب في أعلى الصفحة “هامش”، وكأنك تطلب ممن يقرأ ورقتك عدم الالتفات إلى هذا كله؟
ما هو معنى الهامش؟
أتعرف أن ذلك “الهامش” الذي يكتبه الكاتب –ولا تنظر إليه غالبًا– هو ما يفتح أمامك أبواب الفهم؟ ربما يحيلك إلى كتاب آخر فتستزيد منه ويصبح الأمر أكثر وضوحًا، ربما يكتب تعليقًا ينير لك الطريق فيزيل كل غموض ويمنع كل لبس.
أتعرف أيضًا أن الكلمات التي دونتها –ولا تتذكر الآن لماذا كتبتها– فيها ملاذك ونجاتك؟
فقط تذكّر سبب كتابتك إياها، ركز فيها، فيها مفتاح الطريق الذي يفتح أمامك حتى تصل إلى ما تسعى إليه. هل تعرف كذلك أن هذه الصفحة الأخيرة التي عنونتها بـ”هامش”، وكأنك تتبرأ منها، قد تحمل لك أملًا في النجاح؟
نعم، ربما يجد فيها من يقرأها سببًا في منحك درجة كنت ستفقدها حتمًا، في هذه الدرجة أمل في غد أفضل!
حياتنا أيضًا مليئة بما ننظر إليه بوصفه هامشًا، نهمله، نُبعده، ننظر إليه باستخفاف، كم من شخصية نظرت لها على أنها عابرة في طريقك دون أن تؤثر فيه وفيك، ثم بقليل من التدقيق والتركيز ستكتشف أنها كان لها تأثير كبير عليك، على حياتك، قراراتك، تفكيرك، رؤيتك؟!
من هو عم سعيد؟
كنت في الصف الخامس الابتدائي في مدرسة “ملحقة المعلمات الابتدائية بالهرم” (لهذا الاسم حكاية ربما نحكيها فيما هو قادم)، كنت طالبًا متميزا، وخصوصًا في الأنشطة الثقافية والفنية والرياضية،
كنت عضوًا في فريق الصحافة بالمدرسة تحت قيادة “أستاذ حماد” مدرس العلوم. وقتها طلب منا أستاذنا أن نختار شخصًا أثر فينا لنجري معه حوارًا صحفيًا ننشره في مجلة الحائط بالمدرسة. ظللت أفكر في ذلك الشخص الذي سأجري معه هذا الحوار، ووقع اختياري عليه، كان “عم سعيد”.
ذهبت إلى المدرسة وحان وقت اجتماعنا، سألني “أستاذ حماد” عن الشخصية التي وقع عليها اختياري، قلت بعلو صوتي: “عم سعيد”، ومن هو “عم سعيد”؟ كان هذا هو السؤال المنتظر بالطبع، وكان الرد: عسكري المرور الذي يقف في الإشارة أمام بيتنا (كنت أسكن في شارع الهرم الرئيسي)،
وعلت الهمهمات الساخرة من الزملاء، أهذا هو الشخصية المؤثرة التي تريد أن تجري معها حوارًا صحفيًا؟! وتدخل “أستاذ حماد” مسكتًا زملائي، مثنيًا على فكرتي. بعدها بأيام قليلة كانت صورة “عم سعيد” ونحن متحلقون حوله تزين مجلة الحائط بالمدرسة!
لماذا عم سعيد؟
ولكن لماذا “عم سعيد”؟ كان ذلك الرجل الطويل العريض إلى حد لافت (ربما كنت أراه هكذا بجسدي الضئيل)، صاحب الشارب الكث المائل إلى اللون الأبيض –بلون بذلته صيفًا– بمثابة المنقذ لي دومًا، أتعرف صعوبة مرور شارع الهرم بالنسبة لطفل صغير، يذهب بنفس راضية، لشراء الخبز والجبن والبيض وغير ذلك من أشياء تطلبها منه الأم بوصفه الابن الأكبر لها؟
لم تكن أمي لتقلق عليّ و”عم سعيد” موجود، كان موجودًا دائمًا، كم من مرة كنت في حاجة له لأعبر الطريق ذاهبًا إلى الحلاق، أو متجهًا إلى بائع الجرائد في الناحية المقابلة؟ ظل “عم سعيد” الذي يبدو “على الهامش” في مركز ذاكرتي دائمًا،
أتعرف أنني –حتى الآن– حين أحتاج إلى من يساعدني في عبور الطريق، أبحث عن “عم سعيد”؟ أتعرف أنني في كل أزمة أمر بها، وأحتاج إلى عبورها، أتذكر أن الله سيرسل إليّ “عم سعيد” (ومن يشبهه كثيرون) لمساعدتي على عبور المحنة؟
اقرأ أيضاً:
تجربتان في نقد التعصب.. سيرة ورواية
“عم لويس” صاحب الكشك الخشبي
لم يكن “عم سعيد” وحده! وسع الهامش قليلًا، ستجد إلى جانبه (أو أمامه على الأحرى) “عم لويس”، إنه صاحب الكشك الخشبي على الناصية المجاورة لمنزلنا، كان ذلك الرجل (لا تظنني من المتنمرين) أشبه بتلك الشخصيات النمطية التي يمكن أن تخيف أطفالًا مثلي، كان شديد النحافة،
ولكنه صلد كالعكاز الذي يمسك به بديلًا عن قدمه التي فقدها (لا أعرف كيف فقدها على وجه الدقة)، صوته –إذا تكلم– حاد كالجرس، عيناه الغائرتان في هذين الكهفين العميقين جديران ببث الرعب في النفوس، كان يشبه الشخصيات الأسطورية في حواديت الجدة، أتعرف أن اسمه كان بمثابة أسطورة أيضًا؟
كان يروى أن “عم لويس” مسلم، وليس مسيحيًا كما يشي الاسم، وأنه سمي كذلك من أهله ليعيش طويلًا! لا أعرف صدق الرواية بالطبع، ولم تكن لتهمني كثيرًا، ولكنها أضفت إليه مزيدًا من الغموض!
ذكرى المكافأة
رغم ذلك كله فقد كنت أحب “عم لويس” كثيرًا، ألا تعرف لماذا؟ ماذا يحتاج طفل صغير في هذه السن سوى بعض الحلوى والشيكولاتة والمياه الغازية؟! ماذا نحتاج أكثر من ذلك؟! أهناك مكافأة أكبر من تلك؟! كان “عم لويس” هو الملجأ لي في كل هذا، ما زالت ابتسامته الغامضة تلوح أمامي،
وكلمته ترن في أذني: “عايز إيه يا عم حمادة؟” (هكذا كانوا ينادونني)، حتى الآن يظل “عم لويس” –رغم ما قد يعتقده البعض من هامشيته– في مركز الذاكرة، عند كل نجاح أحققه تُستدعى ذكرى المكافأة، ومع المكافأة لا بد من حضور “عم لويس”، إنه شريك نجاحاتي ومكافآتي!
“عم سعيد” و”عم لويس” نموذجان فقط لما قد تظن أنه على الهامش، ولكنه سيبقى دومًا ما دمت حيًا، ابحث في هامشك، وستجد حتمًا من يساعدك على عبور الطريق، ومن يكون الباعث على النجاح، وجلب المكافآت! رحم الله “عم سعيد” و”عم لويس” وكل من هم في هامشنا!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا