مقالات

علماء أوزبكستان ودورهم في تطور الحضارة الحديثة

آسيا اليوم-بختيار إريسوف

إن لمنطقة ما وراء النهر (أوزبكستان حاليا) مكانة خاصة في تاريخ الحضارة الإسلامية ، إذ ساهم العلماء المنحدرون منها في تطوير العلوم الطبيعية والإنسانية، والكشف عن أسرار الطبيعة والمجرات والكواكب السابحة في الكون على مر العصور.

وقبل أن نبدأ في نشر مقالات عن أجداد الشعب الأوزبكي نود ذكر بعض الآيات التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) ودعا المسلمين فيها إلى القراءة والتعلم والتحصيل والبحث عن المعرفة:

“اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ”.

(1)

عبر تاريخها كله، مضت شعوب البلدان الإسلامية على هدي هذه الدعوة، وأولت اهتماما فائقا نحو التعليم والبحوث العلمية في مختلف الميادين، وأسهمت في تطوير الحضارة العالمية، وما زال هذا التقليد مستمرا حتى يومنا هذا.

وطبقا لاعتراف دوائر البحوث الأجنبية، فقد أصبحت منطقة ما وراء النهر (بين نهري سيرداريا وأموداريا – أوزبكستان الحالية) مركزا للازدهار العلمي والثقافي خلال القرون 9- 15، باستثناء فترة غزوها من قبل جحافل المغول في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وكانت لعملية التطور والازدهار في هذه المنطقة _التي سُميت بعصر النهضة الشرقية_ التأثير الإيجابي الملموس على إحياء العلم والثقافة في الغرب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وقد أسهم بصورة خاصة في إثراء الفكر العلمي على مستوى العالم علماء انحدروا من هذه المنطقة أمثال: محمد بن موسى الخوارزمي، أحمد الفرغاني، أبو ريحان البيروني، أبو علي ابن سينا، محمود الزمخشري، محمود التشاغميني، ميرضياء أولوغ بك، علي القوشتشي والعديد من الآخرين الذين خلفوا تراثا غنيا في مجالات: الرياضيات والهندسة وحساب المثلثات والجبر والكيمياء.

الخوارزمي

ولنبدأ بالعالم محمد بن موسى الخوارزمي، الذي عاش وعمل في نهاية القرن الثامن والنصف الأول من القرن التاسع، وأسهم إسهاما قيما في تطوير علوم الرياضيات والفلك وعلم المثلثات، والجيوديسيا والجغرافيا.

وكانت آسيا الوسطى في تلك الفترة تمثل جزءا من الخلافة العربية، التي شهدت في ذلك الوقت طفرة عاصفة في النمو الاجتماعي والاقتصادي، وازدهارا في التجارة، والحرف، والمعمار، والزراعة، والأبحاث الفكرية، التي تطلبت بدورها تعميق المعرفة في المجالات المذكورة أعلاه من العلوم. وترأس الخوارزمي “بيت الحكمة”، الذي أنشأه والد الخليفة المأمون (813-833) في بغداد.

ومن المسلم به بصورة عامة أن الخوارزمي هو مؤسس علم الجبر، الذي ينبثق مصطلح تسميته من الأطروحة التي وضعها العالِم بعنوان “الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة” (كتاب مختصر حول حساب التفاضل والتكامل). وخلد العلم اسمه، وترسخ فيه بمصطلح كلمة الخوارزمية، الذي يعني سلسلة حسابية معينة، يمكن من خلالها التوصل إلى حل المعضلة الرياضية.

ترك لنا محمد الخوارزمي حوالي عشرين مؤلفا علميا. لكنه لم يبق من هذه المؤلفات حتى يومنا هذا سوى سبعة فقط، وكانت بمثابة الكتب المرجعية للعلماء في المجالات ذات الصلة في الشرق والغرب على السواء.

وقد استخدمت باعتبارها أساسا للتدريس في المؤسسات التعليمية. وقد مثلت أعمال العالم في مجال الجغرافيا الأساس لوضع العديد من الأعمال الأخرى في هذا المجال. وأصبحت جداوله الفلكية (زيج) نقطة الانطلاق نحو تطوير علم الفلك في الشرق والغرب.

 الفرغاني

عالم آخر من المعاصرين للخوارزمي هو أحمد بن كثير الفرغاني (797-865)، الذي اكتسب شهرة واسعة في أوروبا تحت اسم الفرجانوس. وقد ترك أثرا لا يُمحى في علوم الفلك والرياضيات والجغرافيا. وتُرجم مؤلفه بعنوان “جوامع علم النجوم والحركات السماوية” مرتين إلى اللغة اللاتينية (في القرن الثاني عشر) وإلى اللغات الأوروبية الأخرى (في القرن الثالث عشر).

قدم سلفنا العظيم إسهاما كبيرا إلى الخزانة العالمية لكنوز العلم، ووضع من الأعمال التي خلدت اسمه إلى الأبد وجلبت له الشهرة العالمية. وقد وصل إلينا فقط 11 مؤلفا من أعماله باللغة العربية، من بينها: “عناصر علم الفلك”، “حساب السبعة أقاليم المناخية”، “الكتاب المثالي حول بناء الأسطرلاب الشمالي والجنوبي مع البراهين الهندسية”، “كتاب حول بناء الساعات الشمسية”، و”كتاب حول طريقة العمل مع الأسطرلاب”.

وتشير المصادر إلى أن الممثل البارز لعصر النهضة الأوروبية ريجيومونتان (1436-1476) –العالم الألماني في النجوم والأجرام وعلوم الفلك والرياضيات– كان يلقي محاضرات في جامعات النمسا وإيطاليا حول أعمال الفرغاني.

كما قدر عاليا أعمال الفرغاني ومؤلفاته أولئك العلماء الأوروبيون المعروفون أمثال جان ليرون دالمبيرت (1717-1783)، ك. بروكلمان (1863-1956)، خ. زوثر (1848-1922)، فضلا عن زملائهم من العلماء الروس مثل إ. يو. كراتشكوفسكي (1883- 1951)، أ. ب. يوشكيفيتش (1906-1993)، ب. أ. روزنفيلد (1917-2008) وغيرهم من العلماء الآخرين.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن العالِم أقام خلال حياته نصبا تذكاريا لنفسه –وهو بناء شيده لقياس منسوب ارتفاع المياه في نهر النيل في مصر– وهو مقياس النيل الذي ظل يُستخدم لقرون عديدة لتحذير السكان من اقتراب الفيضانات.

البيروني

وُلد أبو ريحان البيروني في بلدة بيرون إحدى ضواحي مدينة كاث عاصمة ولاية خوارزم القديمة. وأبدى منذ طفولته في وقت مبكر اهتماما كبيرا بتحصيل العلوم الطبيعية الدقيقة، وكذلك العلوم الإنسانية. وتلقى تعليمه على يد العالم الشهير أبو نصر منصور بن عراق، الذي امتدت أعماله إلى مجالات شتى مثل علم الفلك، والهندسة، والرياضيات.

وتكريما لفضل معلمه عليه وما منحه من هبات عظيمة، كرس له التلميذ اثني عشر مؤلفا من أعماله. وبالإضافة إلى لغته الأم، تعلم البيروني اللغات: العربية، السجدية (تنتمي إلى مجموعة اللغات الشرقية الإيرانية)، الفارسية، الآشورية، واليونانية. وفي وقت لاحق في الهند أتقن اللغة السنسكريتية.

كتب البيروني في مؤلفاته العلمية أنه بدأ القيام بأول دراساته الفلكية، عندما كان في مدينة كاث منذ عام 990. وبهدف تحقيق غايته اخترع عددا من الأجهزة التي استخدمها في سياق عمله. وكان أهمها نموذج للكرة الأرضية بقطر كبير للغاية بلغ حوالي 5-6 أمتار، والذي قام بصنعه في عام 995.

واستخدم لقياس المسافات بين المدن بدقة، وكذلك لتحديد عرض وأطوال التضاريس والأماكن. وكان هذا النموذج هو الأول من نوعه الذي يمثل خريطة مجسمة للكرة الأرضية في العالم الشرقي، والتي تم تصميمها وفقا للأسس الرياضية في وضع الخرائط.

مؤلفه “الآثار الباقية عن القرون الخالية”

في مدينة جرجان _الواقعة عند جنوب شرق بحر القزوين_ كتب في عام 1000 مؤلفه “الآثار الباقية عن القرون الخالية”. وقد جلب له هذا العمل شهرة كبيرة وكشف بوضوح عن سعة معارفه الشاملة. يحتوي المؤلف على معلومات حول شعوب خوارزم القديمة، بما في ذلك أصحاب الديانات مثل اليهودية والمسيحية، وعبدة النار، وكذلك حول العادات والتقاليد والأعياد لدى المسلمين.

وفي الوقت نفسه، فإن الكتاب مكرس لتناول البراهين النظرية للمنهج والأساليب التاريخية والإثنوجرافية (علم السلالات والأعراق) والإثنولوجية (علم دراسة تنوع أشكال النشاط لدى مختلف الأعراق) والطبية، والمصادر التاريخية والعلمية وطرق البحث العلمي ومنهجيته، والصراعات والنزاعات والتعميمات التاريخية، وعدد من القضايا الأخرى، ويمثل الكتاب مصدرا لا يقدر بثمن للمتخصصين في تلك المجالات.

ابن سيناء

أبو علي بن سينا (980-1037)، المعروف في العالم باسم ابن سينا، أحد العلماء الموسوعيين العظام في العصور الوسطى. ولا تزال أعماله تمثل مصدرا ثريا للمعرفة القيمة في شتى مجالات العلم، كما أن تراثه الذي أثار الإعجاب لدى الدوائر العلمية في مختلف العصور، لتعدد جوانبه وشموله، يتراوح وفقا للمصادر المختلفة بين 450 و500 عملا في شتى المجالات مثل: الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم الفلك والطب والفلسفة والأدب واللغويات والموسيقى، بما يشمل حوالي ثلاثين مجالا علميا.

أهم اعماله

من أهم أعمال ابن سينا الأساسية متعددة الأجزاء كتاب “الشفاء”، و”القانون فى الطب”، وكتاب “الإنصاف”. ويتكون الكتاب الأول من 22 مجلدا مخصص لأربعة أقسام رئيسة هي: الرياضيات والفيزياء والمنطق وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا). وقد تُرجم عدد من المجلدات إلى اللغات الأوروبية والشرقية والروسية والأوزبكية.

الكتاب الثاني –الذي حاز الشهرة الأعظم في العالم– يتكون من خمسة مجلدات، يغطي كل جزء منها مجالا معينا في الطب بصورة شاملة. بالإضافة إلى ذلك، فقد وجد موضوع الشفاء انعكاسا له أيضا في أعمال أخرى للعالِم، مثل “الأرجوزة في الطب”، ويحتل هذا العمل المرتبة الثانية من حيث المحتوى والأهمية بعد كتاب “القانون فى الطب”، والمحفوظ في خزانة الكتب بمعهد أبو ريحان البيروني للدراسات الشرقية لأكاديمية علوم جمهورية أوزبكستان في طشقند.

ويمثل كتاب “رسالة النبض” لابن سينا العمل التالي من حيث الأهمية في مجال الطب، حيث يعطي العالِم عشرات الأنواع من النبض ويصف أهمية التشخيص.

الكتاب الثالث هو كتاب “الإنصاف” المكون من عشرين مجلدا، ولكنه للأسف لم يصل إلينا وفُقد مثله مثل العديد من أعمال ابن سينا الأخرى.

ميرضياء أولوغ بك

عند زيارة السياح لأوزبكستان وتعرفهم على معالم سمرقند، ينبهرون بصورة خاصة أمام الأعمال العلمية والأنشطة السياسية لمحمد طراغاي، المعروف باسم ميرضياء أولوغ بك (1394-1449)، وهو حفيد رجل الدولة العظيم، والقائد الأسطوري حامل شعلة الاستنارة الأمير تيمور.

وُلد ميرضياء أولوغ بك في مدينة السلطانية خلال زمن الحملات الفارسية لجده المجيد، وتم تعيين الشاب ميرضياء أولوغ بك –الابن الأصغر لشاه روح– وهو في سن السابعة عشرة حاكما على ما وراء النهر وتركستان.

وخلافا لجده، لم يكن مهتما بالحملات العسكرية. وقد تأثر كثيرا بعلماء الرياضيات والفلك العاملين في البلاط، مثل مولانا أحمد القاضي زاده الرومي، وتجلى ذلك التأثير في ظهور موهبته وقدراته غير العادية في العلوم الطبيعية، التي احتلت مكانة هامة في حياته المستقبلية.

وطبقا لمعاصريه، صار أولوغ بك وهو في سن العشرين من عمره ضمن عداد كبار العلماء في زمنه، وتمتع بصيت كبير في الأوساط العلمية. وقد انصب اهتمامه الرئيسي نحو التنوير وتطوير التعليم. وبهدف تحقيق هذه الغاية، بدأ في إنشاء المدارس في سمرقند وبخارى وغيجدوان، ودعا إليها نحو مائة من العلماء في مجالات: الأدب والتاريخ والخط، والفنون البصرية وفن العمارة، والرياضيات وعلم الفلك. وهكذا، أرسى القاعدة الصلبة لتعليم الأجيال المقبلة وازدهار الأراضي الخاضعة لإدارته.

خلال الأعوام 1424 – 1429، كان أولوغ بك مستغرقا تماما في بناء المرصد الفلكي في سمرقند. وقد أتاح له البدء في ممارسة نشاطه العلمي هنا أن يتفرغ للأبحاث الهامة، والتي سوف تشكل في المستقبل أساسا للإنجازات التاريخية لذلك العصر، ونهضت بالفكر العلمي في المنطقة إلى آفاق رحيبة.

على وجه الخصوص، وبفضل تلك البدايات، ففي عام 1444 بعد مرور 30 عاما من العمل الدؤوب والشاق والرصد الفلكي، وضع فريق من العلماء برئاسة ألوغ بك دليل النجوم الفلكية، والمعروف باسم “زيج ألوغ بك” أو “زيج جوراجان الجديد”.

أين نحن اليوم من تلك المشاهد السابقة؟!

نفس المشاهد السابقة نجدها –تقريبا– اليوم لكن بشكل معكوس، حيث انقلبت الأحوال إلى الضد وصرنا نحن الذين ننقاد وراء كل ما هو غربي ماديا ومعنويا. والأسوأ من ذلك أننا نسعى في تقليدهم سعي الجاهل العاجز الذي لا هم له في حياته إلا إشباع الذات وتحصيل الملذات، بينما كانوا يتزودون من الثقافة والعلوم الإسلامية ليبنوا مجتمعاتهم.

إضافة إلى أن حضارتنا قامت على أسس شرعية صحيحة راسخة نقية تهدف إلى إصلاح الناس جميعا، أما الغربي فقد انحرف بحضارته عن مسار العلم النافع الذي جاءت به حضارتنا، ودخل في مسارات الإفساد والتفسخ والانحلال، لأنهم افتقروا إلى المبادئ والأسس الأخلاقية والشرعية التي تحافظ على المسار الصحيح للعلم.

وبعد أن انفصل المسلمون عن حضارتهم ولم يسلكوا طريق العلم الذي سلكه أسلافهم قل شأنهم وانهار مركزهم، ثم نظروا من حولهم فوجدوا الغرب قد سبقهم في العلم والمعرفة، فحاولوا أن يلحقوا بهم، ولكن دون تمييز بين الغث والسمين والنافع والضار. ولكنهم عجزوا عن اللحاق به، لأنهم لم يدركوا منه إلا القليل من الفتات المخلوط بكثير من علل الثقافة الغربية وأمراضها.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

العلماء ورثة الأنبياء

لحوم العلماء .. بين المدح والذم!

نحو بناء حضارة عربية جديدة

أ. د. رفعت عبد الله سليمان حسين

استاذ اللغه والادب الفارسي والطاجيكي والمخطوطات الاسلاميه بجامعه قناه السويس