مقالات

الأبعاد المنطقية للذكاء الاصطناعي

مما لا شك فيه أن المنطق يحتل موقعًا استراتيجيًا على الخريطة الفكرية والمعرفية. فهو يربط مجموعة من العلوم المختلفة بعضها ببعض، مثل الرياضيات واللغويات والفلسفة والحاسوب. ولعلنا نشير إلى أن إدخال الرياضيات المنهجية للمنطق قد أسرعت في النصف الثاني من القرن العشرين، وهذه العملية قد توثقت توثيقًا جيدًا في صفحات “جريدة المنطق الرمزي”، ومن هنا فقد أعطى هذا المنطقَ قدرًا كبيرًا من العمق.

لكن التركيز على الرياضيات كونها منطقًا عقليًا قد أعطى المنطق أيضًا أساسًا ضيقًا من البديهيات والأفكار الدافعة، التي يدعم بها هذه النتائج. وعلى الرغم من أن علاقة الفلسفة بفكرة إيجاد آلة ذكية أو مفكرة علاقة قديمة جدًا، فرحلة الفلسفة مع الذكاء الاصطناعي تبدأ منذ ظهوره في المجتمع الأكاديمي أول مرة عام 1950، ذلك العام الذي كتب فيه “آلان تورينج” مقالته الشهيرة “الآلة الحاسبة والذكاء”، وطرح فيها سؤالًا رغم صبغته الرياضية والحاسوبية، فقد بدا فلسفيًا أساسًا، وهو: “هل يمكن للآلة أن تفكر؟”.

كانت الإجابة بقدر ما تتطلب تقديرات أمبيريقية (تجريبية) لسلوك الكمبيوتر، تتطلب بالقدر نفسه بل يزيد تحليلًا فلسفيًا ومنطقيًا لمفاهيم مثل التفكير والذكاء والآلة والإدراك. ولو كان مقررًا للكمبيوتر أن يخزن أو يحفظ الحقائق عن العالم، فإنه يحتاج إلى لغة دقيقة، ويجب أن يكون البرنامج مرتكزًا على فكرة دقيقة موجزة لما يسمى بالمنطق الجدلي، هنا تتضح العلاقة الوثيقة بين المنطق والذكاء الاصطناعي.

بناء على ذلك، كان طبيعيًا في البداية محاولة استخدام لغة المنطق الرياضي لكي تعبر عما يعرفه برنامج كمبيوتري ذكي، ويكون ملائمًا للمشاكل التي يريد حلها، ولجعل البرامج تستخدم استنتاجًا منطقيًا لكي تقرر ما يفعله.

الذكاء الاصطناعي وعلاقته بالمنطق

إن الذكاء الاصطناعي أحد علوم الحاسوب، التي تهتم بإنشاء البرمجيات ومكونات مادية قادرة على محاكاة السلوك البشري، وبمعنى آخر: علم يهدف إلى محاكاة بعض عمليات الإدراك والاستنتاج المنطقي التي يجيدها الإنسان آليًا وبسرعة عالية، كذلك إنجاز عديد من المهام الصعبة والمعقدة التي كانت تنجز يدويًا، وذلك باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في هذا السياق نشير إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع أن يتجنب المنطق، ولو كان مطلوبًا من كمبيوتر أن يكون له سلوك ذكي في العالم الواقعي، فلا بد من تزويده بنوع معين من الإطار الذي يناسب حقائق معينة تُكتشف، وهنا يحتاج إلى المنطق.

لدينا أمثلة كثيرة لتوضيح العلاقة الوثيقة التي تجمع بين المنطق والذكاء الاصطناعي. فالمنهج المنطقي للذكاء الاصطناعي يحقق ما تكون عليه معرفة العالم، والدور والحدود الخاصة بإجراءات خاصة وتعميم آلات الذكاء. ولعلنا نلفت الأنظار هنا إلى أن الروابط بين المنطق والحاسبات أضحت مسألة ممارسة هندسية في كل مستويات الحواسيب. وخير مثال على ذلك أن كثيرًا من الشركات أصبحت تحمل اسم الأدوات المنطقية أو (لوجيك سوفت وير)، فالأفكار التي ظهرت لأول مرة في الأبحاث التقنية بواسطة علماء المنطق توجد حاليًا بعمق في عديد من جوانب علوم الحاسوب.

أيضًا من أهم تلك العلاقات ما يشير إليه مصطلح الذكاء الاصطناعي المنطقي، الذي يكون أكثر طموحًا من الناحية الفكرية عن المناهج من ذكاء اصطناعي قائم على التطور، لذا يتطلب فهمًا كافيًا عن الذوق العام، وفهمًا عن المتطلبات من أجل البت في مجموعة من الأفعال لوضع الحقائق الأساسية في برنامج كمبيوتري منطقي.

دور المنطق في تطوير الذكاء الاصطناعي

علاقة المنطق بالذكاء الاصطناعيلعلنا نلفت الانتباه هنا إلى أن كلمة علاقة بين المنطق والذكاء الاصطناعي تشير إلى دور الشراكة، وإلى دور أكثر أهمية؛ دور التأسيس الذي يلعبه المنطق في نظم الذكاء الاصطناعي المختلفة. من ناحية أخرى يمكن أن توصف هذه العلاقة أيضًا بأنها علاقة ثابتة إلى حد ما، فعلى مر تاريخ الذكاء الاصطناعي لم يهمش دور المنطق، ولم يفتر النظر إليه على أنه أحد الركائز الأساسية لهذا العلم، وإن حدث أن انخفضت أسهم المنطق نتيجة لظهور بعض القضايا التي تتخطي حدوده، فسرعان ما تعود هذه الأسهم إلى معدلاتها الطبيعية بعدما يدرك علماء الذكاء الاصطناعي أن المنطق أيضًا الأداة الأنسب للتعامل مع هذه القضايا.

من الأهمية بمكان في توضيح تلك الصلة الوثيقة بين المنطق والذكاء الاصطناعي أن نشير إلى تيار أو موقف من العلماء يسمى فريق المنطق؛ فريق يؤيد ويدعم بل ويساند تصميم برامج الكمبيوتر الذكية لتفكر وفقًا لاستخدام لغات المنطق، دون الاعتداد بما إذا كانت هذه الطريقة هي التي يفكر بها البشر أم لا. ومن المؤيدين لتلك الطريقة كل من “جون مكارثي” و”باتريك هانز”، نظر كل منهما إلى المنطق على أنه قلب الذكاء الاصطناعي، إذ يتضمن عديدًا من الأنساق الصورية والتي تجعل من الاستنباط المنطقي العملية المحورية للذكاء الاصطناعي.

اقرأ أيضاً: هل نحن نعيش داخل برنامج محاكاة؟

ما هو المنطق الغائم؟

يقصد بالمنطق الغائم المنطق ذو الأبعاد الثنائية؛ درجات احتمال الصدق ودرجات احتمال الكذب. ونسبة الصدق تتراوح بين 0-1 درجة. وقد كانت الأجندة الرئيسية للذكاء الاصطناعي منذ بدايته، في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، تشييد حاسوب مبني على أنظمة تؤدي المهام التي يؤديها البشر روتينيًا، أما الهدف الثاني: تمكين الحواسيب بأن تؤدي مهامها النموذجية بالأسلوب الذي يمكن أن يقال لإظهار الخصائص التي يمكن اعتبارها ذكية.

الشيء الأساسي لأكثر الأنشطة الإنسانية: القدرة على التفكير الاستدلالي الذي يطلق عليه باحثو الذكاء الاصطناعي معرفة الحس المشترك (Common sense knowledge). ولعلنا نوضح كذلك أن عددًا من السمات التي تميز حقل الذكاء الاصطناعي منها استخدام البشر، باعتبارهم المصدر الذي يشتق منه معظم نماذجها.

من المعروف في هذا السياق أن كلًا من المنطق الكلاسيكي، والمنطق الغائم، والأنساق المنطقية غير التقليدية، تمثل أدوات قد اخترعها الإنسان لصياغة عبارات عن أنواع الأشياء. من هنا يسمح المنطق الغائم بحالات متوسطة، ويفترض أن كل عبارة لها درجة صدق تتراوح بين 0-1.

المنطق الغائم والذكاء الاصطناعي

علاقة المنطق بالذكاء الاصطناعي

المنطق الغائم يستخدم درجات الصدق التي تستبدل العبارات المطلقة عن الأشياء، وكذلك في المنطق الغائم يسمح الاستدلال للمقدمات أن تكون مختلفة نوعًا ما عن مقدمة قاعدة الاستدلال، وتبعًا لذلك يمكن للمعرفة الجديدة أن تستخدم بأقل تقييد.

هنا أدرك باحثو الذكاء الاصطناعي أهمية المعرفة في أداء عديد من المهام الإنسانية، وكانت النقلة الأكثر أهمية للتفاعل بين الذكاء الاصطناعي ونظرية الفئة الغائمة، قدرة النظرية الغائمة على تقديم إمدادات لعديد من التراكيب المُعرّفة المقدمة في الذكاء الاصطناعي، لتسمح بخاصية المرونة والدقة. وعليه تسمح الفئات الغائمة للحواسيب بأن تستخدم نمط المعرفة البشرية، الذي يسمى الحس المشترك.

هذا يعني أن هدف المنطق الغائم تحسين تقنية الحاسوب غير الملائمة إلى حد ما عن طريق مضاهاتها للحس المشترك.

صفوة القول

إن بين المنطق والذكاء الاصطناعي علاقة وثيقة، بدأت منذ ظهور علم الحاسوب. ولا غنى للذكاء الاصطناعي عن استخدام علم المنطق، من أجل تطوير قدرة الحواسيب الذكية.

مقالات ذات صلة:

الذكاء الاصطناعي العاطفي

الرياضيات بين العقل والحس

العقل كبرمجيات حاسوبية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د./ عماد عبد الرازق

أستاذ الفلسفة الحديثة و المعاصرة

رئيس قسم الفلسفة، كلية الآداب جامعة بني سويف