مقالات

لقد فقد أغلى من عنده، فكيف يتخطى هذه الصدمة؟ ولمن يعيش؟

أب فقد ابنته الوحيدة فضاقت به الأرض، وضاقت به نفسه، ودخل في اكتئاب شديد دفعه للتفكير في الانتحار مرات، فضلاً عن الإحساس بأن  لا شيء آخر يمكن تقديمه في حياته، لا شيء يستحق، لا شيء ذو قيمة.. ذو معنى …ذو غاية مهمة  !

صديقة فقدت زوجها، استمر زواجهما ثلاثين عاما، ولم يرزقا بأطفال، وكان كل حياتها!
تحكي: كان عقلي الذي أفكر به ورجلي التي أمشي بها، لا أعرف شيئا ولا أستطيع عمل شيء.. كان كل شيء!
انهارت، تحاول التماسك، لا تستطيع..

في هذه النماذج وغيرها الكثير نشاهده حولنا يومياً، ارتبط معنى الحياة، وتجسدت قيمتها  لدى أبطالها في أشخاص أعزاء، مع اختلافهم في النماذج المختلفة.

وليس فقط الفقد بمعنى الموت هو ما قد يسبب الأزمة، بل أيضا أب سخّر حياته بأكملها لأولاده، وقته وصحته ومجهوده لهم، وهم كل شيء بالنسبة له أومعنى الحياة، بل هم الغاية من الحياة وهدف الوجود.. تزوج أولاده جميعا وبدأ كلٌ يستقل بأسرته الصغيرة، يبرون الأب والأم ويداومون على الزيارات وتقديم الرعاية، لكن تظل الحياة فارغة بالنسبة للأب والأم، قلت هموم الأولاد وانصرف كل منهم لحياته، وأصبح قادراً على التعامل مع مشكلاته، فلم يعد لحياة الأب والأم معنى!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هل حقاً معنى حياتنا وقيمتها والغاية من وجودنا،هم الأشخاص العزيزون علينا؛ بحيث نختزل غاية كل سعي فيهم، ونعتمد في كل حركة عليهم ؟!

ذلك التصور لوجود الناس في حياتنا، للأسف غير صحيح، وكثيراً ما سبّب أذى وحزن، بل واكتئاب لأصحابه وعدم اتزان نفسي، فضلا عن الانهيارات والانكسارات النفسية المدوية في حالة فقدانهم أو تغيرهم عما عهدناه، وهذا كله وارد. فطبيعة  الإنسان تقتضي موته، ولا يمكننا ضمان استمرار شخص على صفة معينة أو سلوك معين بشكل أكيد، ربما يعرض له ما يجعله يختار غير تلك الصفة أو هذا السلوك، بل حتى قد نخطئ في أحكامنا فنظن بالبعض ما ليس فيهم، ونتعلق بما توهمنا اتصافهم به، ثم نكتشف الحقيقة في وقت لاحق.

لكن هل يعني ذلك أن ننصرف عن الجميع، وننعزل ونتوحد على “جزيرة معزولة” ؟

الإحتياج للناس ضروري

في الحقيقة إن هذا الأمر ربما يكون مستحيل وغير ممكن؛ فاحتياجنا للاجتماع فطري ولا يمكن لأينا العيش بمفرده.

أبسط الاحتياجات الإنسانية تتطلب المشاركة، رغيف الخبز الذي تناولته في وجبة الإفطار، شارك في صنعه وتوصيله لك الكثيرون، ملابسك التي ترتديها تطلبت عمل الكثيرين حتى وصلت إليك.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بالإضافة لاحتياجنا للغير في توفير احتياجاتنا المادية كالطعام والشراب والملابس والزواج والمواصلات والأمن وغيرها… بالإضافة لذلك فاحتياجاتنا المعنوية الفطرية تتطلب المشاركة أيضا، ونحتاج لغيرنا في تلبيتها، كاحتياجنا للمعرفة، والتي الكثير منها يتم تحصيله من العلوم والمعارف التي تراكمت طوال التاريخ الإنساني، واحتياجنا للتربية والأخلاق نحتاج فيها لمن يربينا ويوجهنا للخلق النبيل الفاضل، واحتياجنا للرعاية والاهتمام والحب والتقدير، بل والاحتياج للمشاركة!

كل ذلك جعل الاجتماع فطرة إنسانية لا يمكن الحيد عنها أو معاكستها.

ولكنهم ليسوا غاية

لكنه ومع كون الاجتماع فطرة إنسانية، لم يجعل ذلك الناس غايات في حد ذاتهم، ولم يجعل معنى حياتنا وقيمتها ومعتمدنا يتلخص فيهم، ولم يكونوا غاية وجودنا.

الإنسان في سعي دائم نحو الكمال والسعادة، وسد النقص لديه وتلبية احتياجاته المختلفة، المعنوية والمادية.

تتوق روحه دوما للمعرفة والاكتشاف، ويدفعه فضوله للتساؤل عن العلل والبحث عن الحقيقة، ويحتاج للتهذيب والتربية والتحلي بفضائل الخلق، كما تحتاج نفسه لمعنى وقضية حق كبرى، يؤمن بها ويكون سعيه في سبيلها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فضلا عن الاحتياجات المادية التي ذكرنا بعضها سابقا.

 احتياجات الروح  غاية أهم

ولإن الإنسان تميز عن غيره من المخلوقات في هذا العالم بعقله وروحه المجردة المعنوية، كانت احتياجات الروح أهم وأولى وأكثر قربا من حقيقته الإنسانية، وكانت كمالاً حقيقياً له دون التنكر لحاجاته المادية بالطبع.

فإذا كان سعي الإنسان هدفه الوصول للكمال، والالتحاق بركب السائرين للقرب من منبع الكمالات المطلقة، الإله الحكيم العليم، فإن تلبية احتياجات روحه هي سبيل تكامله الحقيقي، وتحقيقه لغاية وجوده وسعيه.

فأين موقع الناس وبخاصة القريبين منا في هذه المعادلة؟!

الغاية هي القرب من الكمال المطلق والتزود منه، ونحتاج للناس لمساعدتنا على ذلك، لمساعدتنا على التكامل، فهم وسائط ووسائل.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

معنى الحياة ليس الأولاد، معنى الحياة يستمد من الغاية من الوجود، وكل سلوك يخدم تلك الغاية يكتسب معنى وقيمة، ورعاية الأولاد والسهر عليهم، والحرص على تربيتهم تربية سليمة، أحد السلوكيات التي تخدم تلك الغاية لكنه ليس الغاية، ماذا يفعل من لم يرزق بأولاد إذن إذا كانت تلك غاية الحياة؟

غاية الحياة ليس الزوج أو الزوجة، لكن رعايته والوفاء له، والقيام بالواجبات تجاهه، وحسن معاشرته أحد السلوكيات التي تخدم تلك الغاية، وبفقده أو فقدها لن ينعدم السعي بل يستمر باستمرار الغاية من وجودنا وثباتها.

المعرفة والمساندة والعطف والرعاية والحب، كل تلك الخيرات لم تتجسد في بشر، لم نجد يوما العطف يسير في الشارع، ثم صدمته سيارة مسرعة فلقي حتفه وفقدناه للأبد!

نحتاج لعلاقات متوازنة

لم يحدث ذلك ولن يحدث، كل تلك الخيرات هي فيوض من منبع الكمالات المطلقة، تصلنا عن طريق البعض، لكن ليسوا أساسها أو مصدرها الحقيقي، وبالتأكيد ليس الأب أو الإبن أو الزوج أو أيا يكن هو أو هي وسيلتها الوحيدة.

صديقتي فقدت زوجها العطوف، لم تفقد العطف، ولن تفقده فهو باقي ببقاء منبعه المستمر دوماً.

ومعنى الحياة الذي ضاع بفقدان البنت أو بزواج الأولاد، لم يضع في الحقيقة، لإنه لم يكن فيهم في الواقع، كانوا أحد الوسائل فقط، وتغيرت الوسيلة وبقيت الغاية ثابتة وباقية.

والحياة لا تنتهي بفقدان عزيز مع صعوبة الفقد، فطبيعة عالمنا التحول والفساد، وإلى عالمنا ينتمي جسد الإنسان، فطبيعته تقتضي الموت.

نحتاج جميعاً أن تكون علاقاتنا سليمة عقلانية، نضع الناس في موضعهم الحقيقي، ولا نحملهم أكثر مما يحتملون، فهم ليسوا آلهة في نهاية الأمر.

نحتاج لعلاقات متوازنة!

اقرأ أيضاً:

البحث عن السبب الجذري

لفراغ الذي يتركه الأعزاء

الحقوق والواجبات داخل الأسرة وخارجها

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

داليا السيد

طبيبة بشرية

كاتبة حرة

باحثة في مجال التنمية العقلية والاستغراب بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

حاصلة على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

مقالات ذات صلة