علاج نقص المناعة المكتسب …علاج الضمير
إن النفس البشرية تعمل داخلها ثلاث قوى:
1.قوة عقلية تحكم عملية اتّخاذ القرار، و تحدد آليات تنفيذه.
2.قوة شهوية تدفع نحو السعي للحصول على موجبات السعادة و ضروريات البقاء.
3.قوة غضبية ، و هي المنوط بها دفع الضرر و مواجهة التحدّيات .
وقد رأى قدام الفلاسفة أنّ المجتمع بدوره تعمل فيه و تحرّكه النوازع الثلاث تلك، و يتبع نفس التقسيم العضوي. فعقل المجتمع حكماؤه وباحثوه، وشهوته تتمثّل في هؤلاء الذين تخصصوا في جلب وسائل الرخاء والزينة والمتعة من العمال، و قوى المجتمع الغضبية تتمثل في العاملين على حفظ الأمن والنظام العام فيه. وفي تكامل القوى الثلاثة وإسناد كل وظيفة لحامل مؤهلاتها اتزان الكيان العضوي وتحقيقه للسعادة الحقيقية. و من البديهيّ أنّ التخلّص من أيّ من هذه القوى فيه قتل لفطرة الإنسان والمجتمع.
والعقل وظيفته الحكم وتحديد الصواب والخطأ ومن ثمّ توجيه المجهودات، و إذا تم إنزاله عن هذه المنزلة أصبح مجرّد آلة تبريرية تنفيذية للمتحكّم الجديد في تحديد المصلحة والضرر. و مشاعر الإنسان تمثّل القوة المحرّكة له عند علماء النفس، و كذلك يقول أصحاب المنهج العقلي البرهاني إنّ القلب محل انطلاق السلوك العملي، إنها الطاقة الحيوية كما سماها المفكر الراحل مالك بن نبي. هذه الطاقة المحرّكة عمياء، كلّما أججتها كلّما دفعتك بشكل أقوى، إلى الاستزادة، إلى تخصيص جزء أكبر من تركيزك وإمكانياتك لصيانتها وإشباعها والبحث عن المزيد والجديد. هذه الطاقة إذا فاقت قدرة العقل على ضبطها جرّت الفرد والمجتمع إلى ما لا يحمد عقباه.
إن الخط الأول لمناعة الإنسان والمجتمع هو ضميره، يعمل هذا الضمير -بعد إدخال تعريفات الحسن والقبح إلى ذاكرته- على مراقبة سلوك الفرد والأحداث المحيطة به، و يقوم بمكافأتها أو معاقبتها طبقا لمقدار اتّساق الوحدة مع مفاهيمها و منطلقاتها. لكن الضمير ليس المصدر الأوحد للشعور بالسعادة والألم، هناك أيضا عوامل خارجية، منها الأشخاص الآخرون، و منها أيضا “الحقيقة”؛ فمهما يكن الاتساق بين الفرد وبين تصوّراته ومبادئه كاملا، فإن هناك حقيقة ثابتة لمفاهيم الحسن والقبح، والخير والشر، لا تتغير بتغيّر رأي الناس فيها أو تعريفهم لها. لو أجمع من في الأرض جميعا -مثلا- على أن السم القاتل ليس كذلك فإن ذلك لن يغير من حقيقة كونه سما قاتلا. و هكذا فإن شعور الفرد بالسعادة لا يعني بالضرورة أنه سوف يبقى سعيدا ولا إن مفاهيمه صائبة من كل الأوجه. واضطراب الفرد عندما يتوقّع الخير فيجد الشر (أو العكس) هو ما يدفعه لإعادة تكوين مفاهيمه و تفحّص معلوماته.
فماذا يحدث عندما يتحمّل هذا الضمير ما لا يطيقه من الضغط والألم نتيجة الهجوم العنيف المتلاحق عليه؟ يعيد تكوين مفاهيمه. غالبا ما يحدث هذا بشكل غير واعٍ وببطء، بغية التخلّص من حالة الاستنفار لمواجهة الخطر المحدق، والشعور بالألم، والعجز، والتعاسة.. إلخ. يقوم العقل الباطن بربط عمل الضمير بالألم، وتحويله لعبء يجب التحرر منه، و من ثَم يتحوّل الغضب المحمود ضد القبح إلى غضب ضد “إصدار الأحكام” وتنصيب معيار ثابت مستقل حكما على الأفكار والتصرّفات. هذا التغيّر في المفهوم يتحوّل بموجبه الضرر الخطير الذي يجب الانتفاض لدفعه إلى صعوبة حياتية ومسلّمة يجب التأقلم معها، وتتحوّل الصعوبات التي يجب تحمّلها لبناء شخصية قوية مستقلّة إلى ضرر ينبغي دفعه بشتى الوسائل والسبل! عندها تصير البيئة مرتعا لكافة أنواع و درجات الفساد. ويُرى التضخّم واضحا في الشكليات والاحتياجات بينما يتراجع الأداء الوظيفي، ويستشري هذا التضخّم و ينتشر مع مرور الوقت. في هذه الحالة يصاب الكيان الجامع بالتوجّس، فيرى التهديد في كل غريب ومختلف مهما كان هيّنا، لشدّة ضعفه وهشاشته.
يقول الله تعالى: {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، وتبيّن لكم كيف فعلنا بهم، و ضربنا لكم الأمثال}.. فبشعور الأنفس بالسكنى لما تطمئن إليه نفوس المجرمين و بتخاذلها عن النهوض لمحاربته أصبحوا أتباعهم و أقرانهم، و القرآن مليء بقصص “الذين استُضعفوا” و “الذين استكبروا” من أهل النار. و معظمنا يعرف قول سيد الخلق (ص) {من رأى منكم منكرًا فلْيغيرْه بيده فإن لم يستطعْ فبلسانه، فإن لم يستطعْ فبقلبِه وذلك أضعفُ الإيمانِ} و في رواية أخرى {فإن لم يستطعْ فبقلبِه ، وليس وراءَ ذلك من الإيمانِ مثقالُ ذرةٍ} تؤكد كل ما سبق، فعند عجز طاقة الإنسان عن تغييره المنكر بنفسه أو عن طريق مخاطبة من في نطاق طاقته و اختصاصه أن ينهض بالمسئولية، فلا يبقى له إلا أن يعزم و يخطط بكل طاقته لأن يملك القدرة على تغيير هذا المنكر.
هذه الرحلة تبدأ باكتمال التصوّر الصحيح عن الحُسن و القبح، ثم بالتحصّل على العلم النافع الذي يجعل صاحبه أهلا لتحمّل المسئولية، و الاستقامة على الطرق، و العمل الدؤوب على إفاقة ضمير المجتمع، و العمل على تمكين العقل و المنطق السليم من الحكم على الأمور، في عقول العامة و معاملاتهم، و في النظام العام و ممثليه.
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.