مقالات

عقيدة السياسة

عقيدة السياسة

العقيدة هى ذلك المصطلح الفضفاض الذى يبدو بديهياً للجميع، وإن ذهبت أذهان الغالبية إلى قصره على العقيدة الدينية، إلا أن العقيدة هى مجموع الأفكار والمبادىء التى يؤمن الفرد بصحتها، وبها ينطلق لإدارة شئون حياته، فأى إنسان يتصرف بناءاً على ذلك المعتقد فى رحلته لخوض غمار الحياة، والإجابة عن السؤال الذى اجتمعت عليه البرية، وإن اختلف الناس فى نظرتهم للإجابة، وهو السؤال الذى به نفسر أى فعل أو عمل للإنسان ، “كيف أكون سعيداً؟!!” ، وبه تبدأ عقيدة الفرد فى التكون حسب رؤيته الخاصة لكى يبلغ فى النهاية مبتغاه.

أما السياسة ذلك المصطلح الذى اقتحم حياتنا بشدة بعد ثورة 25 يناير، حتى نكاد نراه تحت كل حجر، ونسمعه فى كل حوار، فقد فسره الحكماء بأنها هى فن إدارة المجتمع للوصول به إلى السعادة والكمال، وهو التفسير المنطلق من عقيدة الحكماء المؤمنة بأن السعادة هى أصل الخلقة، ومصيرها الذى تسعى له بكل ما أوتيت من قوة ، تبدأ بالفهم الحقيقى للسعادة وسبر أغوارها ومن ثم السير فى دروبها، واللحاق بركبها الذى سبقنا إليه أولى العقول الذين بالمعرفة ينعمون.

قد يبدو هذان المصطلحان منفصلان، وهو الخطأ الذى وقعنا به بعد أن اكتفينا بنسخ التجارب المختلفة شرقاً وغرباً لإدارة أمورنا، دون أن نتمعن فى تلك التجارب، فتجد هذا يرفض الديمقراطية لأنها آتية من الغرب، وذاك يرفض حديثاً ما عن النبى لأنه يراه قادماً من ماض سحيق لم يعد ملائماً وزمننا هذا، دون أى محاولة لإستيعاب هذه الفكرة أو تلك، وادراك أصلها وكيفية التعاطى معها، وخصوصاً مع غياب المنهجية الواضحة، والمعايير الثابتة الناتجة عن رؤية سليمة للواقع.

فمن التعريفيين السابقين تصبح السياسة بمثابة السلوك العملى للمجتمع الذى به يدبر أموره، وبهذا يحتاج كنظيره -السلوك العملى للفرد- لعقيدة قوية واضحة ، ذات أسس راسخة قائمة على منهج فكرى قوى ذو حجية، لتكون السياسة كالرافد الذى يصب به نهر العقيدة من المبادىء والقيم والأفكار ما يصلح، لتكوين نظرة سياسية من شأنها إدارة المجتمع نحو سعادته ، تتناسب وتلك العقيدة بما تحويه من ثوابت محركة للمجتمع وساسته وأفراده.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وهو ما افتقده ساستنا فى الآونة الأخيرة وربما منذ زمن بعيد، بعد أن تقطعت الأواصر بين السياسة والعقيدة، وحصر السياسة فى مجموعة من المواقف الجزئية التى تنتج نتيجة ظنية قائمة على الاستقراء ، دون امتلاك غاية حقيقية نملك بها الحكم بشكل سليم على مدى نجاح الفكرة من عدمه، لتصبح الغاية قاصرة على رؤية صاحبها لمدى جدواها، دون أى استدلال يقضى بقوتها أو ضعفها.

ولكى تتضح الفكرة بشكل أكبر، دعونا نخوض فى التجربة الغربية قليلاً ، وبالتحديد فى القرون الوسطى التى شهدت سيطرة الكنيسة روحياً ومادياً وسياسياً على أوروبا ، فى ذروة الحكم الكنسى والذى شهد حرباً شعواء على العلم والعلماء وما تبعه من ذلك من قتل وتكفير لهؤلاء العلماء ، واعتبار ارائهم هرطقة وزندقة لابد أن يتم وأدها معهم ، وخصوصاً مع بدء ما سمى بالحملات الصليبية ، لتبدأ الثورات ويتفشى التمرد فى أرجاء أوروبا ، للتخلص من ذلك الحكم الذى كاد يأتى على الأخضر واليابس ، لتدخل أوروبا عصراً جديداً سمى بعصر النهضة الذى لم يلبث أن تبعه عصر الحداثة.

ولتلك المقدمة التاريخية أهميتها ، التى ستبرز مع معرفة ما أنتجته من أفكار قامت على نسبية الحق، لما أتى به اطلاقه من أنهار الدم التى أغرقت يد الجميع بظنهم امتلاكهم وحدهم ناصية الحق ، ليصبح هذا من وجهة نظر من رأى الكنيسة تعيث فى الأرض فساداً باسم الحق حلاً مرضياً يحقن الدماء ، ومن هذا المنطلق كان طبيعياً أن يلقى نهر عقيدة نسبية الحق بأفكاره ، ليظهر رافد الديمقراطية فى السياسة ، ورافد الليبرالية فى الاجتماع ، ورافد الرأسمالية فى الاقتصاد ، وهو ما سار عليه الغرب حتى يومنا هذا.

وبغض النظر عن سذاجة الفكرة الأم وحتى غياب معيار نجاح تلك الأفكار ، التى أتت بالرخاء والتقدم لأوروبا ، ولكنها كذلك أتت بهتلر وبوش وما أراقوه من دماء باسم الحق – الذى ويالسخرية الموقف يعتقدون بنسبيته !! – ليتضح من ذلك احتياج الفكرة للمراجعة ، بدءاً من المنهج المتبع مروراً بالاسئلة المطروحة ، وما تفرضه تلك الاسئلة من إجابات، بها تقوم العقيدة على بنيان صالح قادر على التعامل مع الأمور الحياتية ، بداية من العلاقات الإنسانية إلى السياسة فالاقتصاد.

ليطرح كل ما سبق من الاسئلة ما ينبغى علينا الاجابة عليه فوراً، بدءاً بما ننتهجه لإدراك الحقيقة ، مروراً بالاسئلة الوجودية الأهم فى حياة الإنسان على الإطلاق ، من أين؟!! وفى أين؟!! وإلى أين؟!! لتتشكل عقيدتنا السليمة القادرة على إمداد روافد سلوكنا بالأفكار القوية، التى بمقدورها إفراز نظريات سياسية واقتصادية واجتماعية من منظورنا الخاص، القادر على التعاطى مع أزماتنا من منطلق اعتقاد راسخ مستدل عليه، قائم على منهج ذو حجية ، منتج لأيدلوجية واضحة يكون فيها الحكم للمبادىء والقيم لا المصلحة والقوة والنفوذ بدلاً من تلك السياسة الواهية الناتجة عن عقيدة التقليد المفتقرة لأى فهم أو وعى والمفتقدة لأى معيار أو رؤية ناهيك عن صحتها.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

محمد صابر

مهندس حر

باحث في علوم التربية وفلسفة التعليم بمركز “بالعقل نبدأ”

دراسات عليا في كلية التربية جامعة المنصورة

حاصل على دورة إعداد معلم (TOT) من BRITCH FOUNDATION TRAINING LICENSE المعتمد من الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية