مقالات

عقلي ليس للبيع وليس متحفا للعرض

عندما وضع الشيخ البشير الإبراهيمي -رحمه الله- قاعدته في التحرير كان يدرك أهمية تحرير العقول، وأن عبودية الأجسام تأتي تبعا لعبودية العقول، فقال: “إن تحرير العقول أساس لتحرير الأبدان وأصل له، ومحال أن يتحرر بدن يحمل عقلا عبدا”.

وهناك من يعتقد أن العقول الحرة الأصيلة هي دائما تلك التي أكثرت من القراءة، دون أن يدرك هؤلاء أن العقول القارئة إن لم تحررها القراءة وتوسع مداركها فهي قيود عبودية جديدة، تكبل العقل والجسد. إن النصر الحقيقي الذي افتتحت به الحضارة الإسلامية انطلاقتها كان على مستوى العقول؛ بتحريكها وتشغيلها، وفك إسارها من أغلال الخرافة والوهم والتقليد، كما كان على مستوى النفوس؛ بتحريرها من حب الدنيا ومن الطموحات الصغيرة.

كلمة السر

وكم يتعجب المرء كثيرا عندما يرى أناسا يدخلون في حوارات كثيرة، ومع ذلك لا يصلون -غالبا- إلى قواسم مشتركة، وإن وصلوا إلى ذلك فلا توجد لديهم قناعات لتطبيقها وتحويلها إلى أمر واقع، وتبحث عن الأسباب فتجد أن من بين هذه الأسباب أنه من الصعب تغيير قناعات أشخاص لا يملكون إدارتها أو حرية التصرف فيها، فهم فقط يتلقون وينفذون ما قيل لهم من أفكار خاطئة، أو أوامر غير صائبة، وإن حاولت إقناعهم ضاعت جهودك سدى ولم يستجيبوا لك.

ولن تدرك مكمن الخلل عندهم إلا في آخر الأمر، وهو أن هؤلاء الذين تحاورهم -لتصل معهم إلى قواسم مشتركة- “مرمّزون” بكلمة سر، وكلمة السر هذه (الباسورد) لا يعرفها إلا من يتحكم بهم. لقد باع هؤلاء عقولهم وسلموها ليتصرف بها غيرهم كيف شاء.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كم من مرة التقينا بأصحاب عقول مجدبة، مشحونة بالأقوال والأفكار المتضاربة والمعلومات المتناثرة والمتضاربة، كما التقينا بأصحاب عقول ثرية تملك المقولات المرتبطة بالسنن وطبائع الأشياء، كما تملك الملاحظات الذكية على الظواهر العامة.

والسؤال الذي يُلح علينا ويحتاج إلى إجابة هو: متى نصل إلى ساحة الأخذ بالفكر الحر الذي يصدر عن قناعات الإنسان ولا يخضع لثقافة التابع والقطيع؟

وهل أنا إلا من غزية إن غوت        غويت وإن ترشد غزية أرشد.

ومتى نصل إلى قناعة أن تربية الجيل على الفكر الحر هو ضمان للمستقبل الآمن؟ الجيل الذي يتحمل كل فرد فيه مسؤوليته، دون أن يكون أسيرا لهذا الاتجاه أو ذاك، عندها يمكن أن يطلق على هذا الشخص مسمى “الإنسان الحر” لا التابع، هذا الإنسان عقله معه وتحت تصرفه وليس معروضا للبيع.

لنكن من أصحاب العقول الحرة

إننا بحاجة إلى أن نشجع الناشئة على دحر الشر والزيف والفساد قبل أن تتفاقم المشكلات، ونجد بالتالي الطريق نحو العودة مسدودا، إن السكوت عن المنكر هو في الحقيقة نوع من الترويج له، والدفع به إلى الأمام، وإن الأفكار حين تدور في العقول ولا تستطيع أن تجد لها منفذا ولا طريقا إلى الآخرين إما أن تذبل وتتلاشى وإما أن تصبح زاخرة بالعوج والتعصب. وصدق من قال: “إن الزيف يغتصب الحقيقة، ولكن الصمت يغتالها”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن أحرار العقول يعشقون المقارنة، لأنه ثبت أنها تكسر حدة التعصب، وأنها تزيل عن العقول الكثير من الأوهام، كما تزيل عن الأعين الكثير من الغشاوات.

وكم من مثقفين يدعون استقلالية عقولهم، ولكنهم على طرفي نقيض في التعرف على مشاكل مجتمعاتهم، فتجد منهم من لا هم له إلا تحذير الناس من الهلاك الوشيك الذي سيحيق بهم، وبالمقابل هناك مثقفون آخرون على النقيض، ينشرون البشائر بالنصر القريب الباهر.

إن أمثال هؤلاء المثقفين لا يستحقون هذا اللقب، لأنهم لا يقفون موقفا موضوعيا من مشكلات مجتمعاتهم، بل ينحازون إلى هذا الطرف أو ذاك، في تبسيطية مخلة، وهم في الغالب من أصحاب (العقول المستريحة)، لا من أصحاب العقول الحرة.

أتمنى أن نتقدم بالحوار لا على أساس أن أجذبك أو تجذبني، ولكن على أساس أن نأخذ بأيدي بعضنا بعضا، لنخرج من المصيبة التي تعمُّنا جميعا إن كنا من أصحاب العقول الحرة، فالمصائب -كما قيل- يجمعن المصابينا.

ويمكنني أن أختم مقالي هذا بعدد من الخلاصات المركزة، من خلال النقاط التالية:

1-  ثوابت لا تتغير

هناك ثوابت في حياة الإنسان الفكرية والعقلية لا تتغير جذريا بل تتطور وتتوسع وتزداد تفصيلا كلما ارتقى وعي الإنسان وتوسع اطلاعه وتعمقت نظرته لما حوله، ويمكن أن نطلق على هذه الأفكار (الحقائق الرئيسية)، التي على ضوئها يفسر علاقته بالإله والكون والحياة، ومن الصعوبة تغييرها إلا في أندر الحالات عند الانتقال من دين إلى دين أو من أيديولوجية إلى أيديولوجية أو من مذهب إلى آخر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك
2- الأفكار التي تشكل الإنسان

لا يمكن الجزم بأن الإنسان نتاج أفكاره الخالصة، بل قد يكون العكس هو الأكثر حضورا، فالإنسان في الغالب تشكله الأفكار المحيطة به، ويكون تأثره به واضحا وبينا، وهذا ما لا يختلف عليه اثنان.

3- الأفكار بين التجدد والمكوث

يبدأ الإنسان مشواره الفكري وتكوينه العقلي معتمدا على الآخرين، وخلال هذه المرحلة يبقى متلقيا في الغالب إلا من بعض الرؤى الاستقلالية التي تقل وتكثر من شخص لآخر، وعندما يصل الإنسان إلى مرحلة معينة (تختلف من شخص لآخر)  يبدأ بعض النابهين في غربلة حصيلته من الأفكار، فيقبل منها ويرفض ويقدم ويؤخر، في عملية تتوقف على حالة التوهج العقلي عنده، وطبيعة المدخلات التي يغذي بها عقله،

وهناك من يحتفظ بما حصله من الأفكار خلال رحلته العمرية، ويحاول عدم الاقتراب منها لا تفنيدا ولا تطويرا، بل تتحول لديه كمية الأفكار التي جمعها على مدى عمره إلى (موميات محنطة) يحاول الاحتفاظ بها وصيانتها، والبحث عن أماكن صالحة لاستمرارها، فيصبح عقله عندئذ شبيها بالمتحف الذي يحتوي على القطع النادرة وأحيانا الشاذة، وتقتصر وظيفته مع هذه الحصيلة على العرض والحفظ والصيانة،

وقد تكشف له الأيام أن هذا المتحف الذي يحمله في رأسه، هو عبارة عن مستودع لقطع قد تكون رائعة الجمال ولكنها ليست ملكا له، وقد تكون قطعا مشوهة وأحيانا ضارة، ولكن طول إلفه لها جعله لا يفرط فيها مهما كان تأثيرها السيئ عليه.

4- التطور الإيجابي

التطور الذي يجعل الإنسان يعيد النظر في منظومته الفكرية وقناعاته العميقة هو التطور الإيجابي، ولا يعني هذا أن نسير في الاتجاه الذي يقول أن التطور يعني التنازل عن هذه الأفكار والقناعات بشكل كامل، فكل تطور يُحدِث في الفكرة أو القناعة حراكا إما إلى الأمام أو إلى الخلف، إما بالإضافة أو الحذف، وإما بالتقديم أو التأخير،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وإما بالتوسيع أو التضييق، بمعنى أنه يعيد صياغة الأفكار والقناعات التي قد يكون جمعها عفوا، إلى أفكار وقناعات أكثر رسوخا وثباتا مما كانت عليه من قبل قبولا أو رفضا، دون أن يعني هذا أنه قد وصل إلى نهاية المطاف مع هذه الفكرة أو القناعة، بل التطور حاصل والتغييرات واردة، وهكذا يستمر الحال حتى يلقى الإنسان ربه.

5- أهمية الخاصية النقدية

ليس العيب أن نتبنى أفكار الآخرين أو نستفيد منها، فهذا الأمر هو الذي يجري عليه الحال في الانتقال الثقافي والحضاري بين الأجيال، وكثير من الناس يتوقف جهدهم عند هذه المحطة، ودون أن يكلفوا أنفسهم مهمة المراجعة التي تكسبهم مِلكيّة هذه الأفكار والقناعات بعد أن حصلوا عليها (بعرق الجبين)، وإن كانت لهذه الأفكار والقناعات امتدادات من آخرين، وبالمقابل ستكون لها امتدادات مع أناس آخرين يعيشون مع هذا الإنسان أو سيأتون بعده.

أما من يكتشف هذا الأمر (المراجعة وامتلاك الخاصية النقدية) مبكرا فسيهنأ ويسعد بامتلاكه ثروة فكرية عالية المستوى، ويملك معها صكا بملكيته لها مكتوبا بجهده وكده وعرقه وتأمله الفكري.

وأخيرا

يمكن القول إن هذا الأمر يحتاج إلى تأمل كثير ونظرات عميقة، لأنه من الأهمية بمكان، وجزء كبير من عجزنا الحاصل هو تحول الكثير من أبناء أمتنا إلى (ناطقين رسميين) باسم هذا أو ذاك من العلماء والمفكرين والمثقفين والفلاسفة والأحزاب والمذاهب، بحيث تحول هؤلاء إلى نسخ مكررة وأحيانا مشوهة ممن سلموا لهم عقولهم، فلا هم كانوا في مستوى من قلدوهم، ولا هم استطاعوا أن تكون لهم شخصياتهم المستقلة.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

نحو تطبيق لمبدأ الاتساق على الثلاثية الإنسانية

ترويض العقول وتبرير العنف بين المتبوع والتابع!

حقيقة الواقع تفرض نفسها

د. يحيى أحمد المرهبي

أستاذ أصول التربية المساعد كلية التربية والعلوم التطبيقية والآداب – جامعة عمران. الجمهورية اليمنية.

مقالات ذات صلة