عد الأصابع و تجربة بريطانيا
(روبي) بريطانية ذات أصول لبنانية، 33 عام، أم لطفلين، أدلت بصوتها لـ “المغادرة” فى استفتاء مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، حيث أعربت عن قلقها إزاء مستقبل أولادها، فتقول: “بريطانيا أصبحت تعج بالناس من كل مكان”، وحين سُئلت: “إذا كانت مزدحمة الآن فربما لن تكوني هنا منذ البداية؟”، لتجيب: “صحيح، ولكنى الآن أفكر بنفسى”، هذا الموقف الذى يرويه مقدم قنوات دوتش فيلا (جعفر عبد الكريم)، مستدلًا فيه على الأطماع الفردية التي أودت بريطانيا إلى مصير مجهول يبدو أكثر سوءًا وفوضوية، عقب ظهور نتيجة الاستفتاء بـ “المغادرة” بنسبة 52%، مقابل 48% من راغبي البقاء تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، ليمثل يوم الخميس 23 يونيو 2016 يومًا تاريخيًا، ربما تثبت الأحداث مستقبلًا عن كونه لا يقل أهمية عن مقتل سقراط أو إعلان المسيحية دين الدولة الرومانية، أو ربما ظهور المنهج التجريبي على يد فرانسيس بيكون، حيث لا يمثل ذلك الحدث تغييرًا لوجه بريطانيا وأوروبا -بل لا نبالغ لو قلنا العالم كله- سياسيًا واقتصاديًا فقط، بل إن المسألة الفلسفية التى أصبحت مطروحة للنقاش تُعد أهم آثار ذلك الاستفتاء، بالنظر إلى ما أثاره ذلك الاستفتاء من تساؤلات تتعلق بجدوى الديمقراطية بشكلها الحالي.
فبعد تلك النتيجة الصادمة خرجت علينا الإحصائيات التي تُظهر أن ما جعل الكفة تميل بهذا الفارق الطفيف إلى “المغادرة” كانت تلك الشريحة العمرية التي تمثل ما فوق الـ 50 عامًا، مما مثَّل استنكارًا شديدًا لدى الفئات العمرية الأصغر حول كيفية تعايشهم مع قرار قَاتلوا لرفضه، فى حين وافق عليه من لن يضطر للعيش مع هذا القرار طويلًا، لتبدأ المطالبات بصياغة نظام ديمقراطى يُعتد فيه بصوت الشباب والفئات العمرية الأصغر، والبحث عن صيغ أخرى لديمقراطية بديلة عن (شخص واحد = صوت واحد) دون النظر لأي اختلافات وتمييز آخر، وهى المعضلة المتكررة للديمقراطية والتى شهدناها فى مجتمعنا إبان الاستفتاءات الأخيرة، حيث ظهرت بعض الاعتراضات على وجود أصوات الفقراء والمحتاجين الذين يتم التلاعب بأصواتهم نظير حفنة من الجنيهات أو بضع زجاجات من الزيت، أو وجود أصوات كبار السن ممن تم التلاعب بعقولهم إعلاميًا، فعلى ما يبدو أن تكرار تلك الصدمات حول مصائر الأمم المتروك تمامًا للأغلبية قد أعاد الديمقراطية إلى طاولة البحث والنظر، بعد أن كان العالم قد قنع بها طريقًا واحدًا أبديًا، دون أي رغبة للسماح بطرح أي أطروحات أخرى على طاولة النقاش.
على الرغم من أن معظم المطالبات مازالت تدور فى فلك صياغة ضوابط جديدة للديمقراطية، إلا أن تلك المطالبات تضرب الديمقراطية فى مقتل، تلك الديمقراطية التي أطلق عليها المفكر الكبير (عبد الوهاب المسيري) ديمقراطية عد الأصابع، والتي وضع (بركليس) قانونها المقدس “إنما تسمى حكومتنا ديموقراطية لأنها في أيدى الكثرة دون القلة”، ذلك القانون الذى يكتسب قوته من قانون آخر هو “نسبية الحقيقة” المزعوم، ومع النظر إلى تلك الضوابط الجديدة؛ تتهاوى كل الأسس التى قامت عليها الديمقراطية كفلسفة وغاية في ذاتها وتتحول إلى مجرد إجراء شكلى داخل منظومة فلسفية أخرى، لذا ربما لا يكون فى الأمر مبالغة حين ننظر إلى تلك اللحظات التى تلت نتيجة الاستفتاء بريطانياكلحظة فارقة جديدة تتشابه كثيرًا مع لحظة إلقاء (بركليس) لخطبته العصماء التي بها أرسى مباديء الديمقراطية، حيث أصبح على الإنسان الغربى الاعتراف بمطلقية الحقيقة ووجوب الانتصار لها، ولو على حساب الأطماع الفردية وغياب الوعي نتيجة التغييب الإعلامي وإعلاء المصلحة الفردية على مصلحة المجتمع، وأصبح عليه أن يُواجه حقيقة أن تداول السلطة اعتمادًا على آراء الأغلبية لا يمكن أن يكون ضامنًا، كما أنَّ إهدار حقوق الأجيال القادمة في كل قرار يُودى بالإنسانية إلى مسلك يأخذها بعيدًا أكثر فأكثر عن مسعاها للعدل والعدالة.
(حقوق الأجيال القادمة) ذلك المصطلح الذي وإن تمعَّنا فيه وجدناه لا يمكن إلا أن يشير إلى الحقيقة في ذاتها، وكمال الإنسانية الحقة، تلك الحقيقة التي لا يمكن تركها عرضة لرياح الجُهال وأهل المصلحة والآلات الإعلامية المدعومة من أصحاب رؤوس الأموال، وكذلك لا يمكن بأي حال قَصر أهلها على فئة عمرية خاصة أو حالة اجتماعية واقتصادية بعينها، بل يجب أن تكون وجهة لكل ذي عقل، انطلاقًا من البديهيات العقلية واعتمادًا على القوانين العقلية، مع الإيمان بأنه لا يوجد ما يُسمى “استفتاء على حقوق!”، فلا يمكن مثلًا الاستفتاء على “حق السرقة” أو “حق القتل”، بل هو اتباع للحقيقة وحدها ولأهل الحقيقة من أصحاب النظر العقلي والبرهان ذوو الدليل والحجية، في فلسفة ذات منهجية جلية للبحث عن الحق تتجاوز عد الأصابع
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.
.