يا له من عالم شرير! ألم يكن من الممكن العيش في عالم بلا شر؟
سؤال
لماذا يا رب كل هذا الشر في العالم؟
لماذا الأمراض والحروب والمجاعات؟
لماذا الزلازل والبراكين؟
لماذا الموت والألم والفقر؟ لماذا هذا الظلم؟ لماذا أَوجدت الشر في حياتنا؟
من الأسئلة التي أثارت الكثير من الجدل دومًا عند الإنسان هو سؤال “الشر”. وللحكم في أي مسألة يجب أن نتصورها ونفهم معناها أولًا بشكل سليم، فما معنى الشر؟
جواب
الشر -في الحقيقة- هو غياب الخير. مثلما الظلام هو غياب الضوء، والبرودة هي غياب الحرارة.
ففي الفيزياء لا يوجد موجود يسمى بالظلام، الضوء فقط هو الموجود، هو الذي يوجد في مكان فَيُنيره، وله خصائص وصفات، وطول موجي وتردد، ومكونات من ألوان مختلفة، وعندما يغيب الضوء نُسمِّي ذلك ظلامًا! وبالمثل لا شيء موجود يسمى بالبرودة، فقط غابت الحرارة! فالشر ليس شيئًا موجودًا، بل هو مجرد غياب للخير.
والضوء يحتاج لمصدر، يُوجِدُه، ويضيء الغرفة، بينما الظلام لا يحتاج لمصدر أو مُوجد، فقط يغيب الضوء. ولأن الشر لا وجود له فهو لا يحتاج لمُوجد أو لمصدر أيضًا، فالله لم يوجد الشر ولم يخلقه! خلق الخير فقط؛ فالخير هو الموجود الحقيقي الوحيد هنا.
وما نرى أنه مجازًا شر هو في حقيقته خير كما يظهر لنا في أمور كثيرة. فالألم الذي نراه شرًا لحظة وقوع الإصابة، هو الذي يدفعنا للبعد عن مصدر الأذى لجسدنا، ويدفعنا لطلب الدواء، وبالطبع هذا خير! والبراكين والزلازل التي قد نظُنَّها شرًا لأنها تؤدي لخسائر مادية وخسائر في الأرواح، هي في الحقيقة مهمة جدا لتشكل الأرض بشكلها الحالي الذي هو سبب كل حياة على سطحها! وهذا بالتأكيد خير.
وعملية الافتراس أو تغذي كائن على آخر التي نظنها شرًا بشكل ما، ضرورية لاتزان النظام الحيوي بأكمله واستمراره كما لمس الإنسان في كثير من الحالات التي تَدخَّل فيها في هذا النظام؛ فكانت العواقب وخيمة على الجميع. والنار التي تحرق عباءة رجل أو امرأة، هي نفسها النار الضرورية جدا لكثير من الأنشطة شديدة الأهمية والنفع للإنسان وحياته.
الصورة الكلية والكون
فكل ما نراه شرًا؛ هو في الحقيقة خير من جهة ما، أو عندما ننظر للصورة الكلية!
وأيضًا عندما ننظر في الكون نجد الخير في كل أنحائه، كالنظام البديع الدقيق المعجز في أنحاء الكون، من الذرة إلى المجرة. والجمال الخلاب الذي يأسر النفوس، في الجمادات والأحياء. والأنظمة المذهلة المُعدَّة بدقة لحفظ أجسامنا وحمايتها، ونموها وحفظها، ولخروج النباتات، ونمو الحيوانات. والأنظمة الموجودة أيضا في الكون الصامت، كدورة المياه، وسقوط الأمطار، وحركة الرياح. فكل هذا خير عظيم، ومثله كثير.
لكن ماذا عن الإنسان الذي يسرق ويكذب ويقتل؟ أين الخير هنا؟
خلق الله الإنسان وأعطاه القدرة على الاختيار؛ هذه القدرة على الاختيار هي ما تتيح له القدرة على عمل الخير أو عدم عمله.
ومع القدرة على الاختيار أعطى الله للإنسان فطرة تطلب الخير، وتحبه بشدة، وتتمناه، وتنجذب له وتعمل لأجله. وأعطى له عقلا يميز الخير بسهولة، ويسعى له. وأرسل له رسالات ونبوَّات تُنبهه أيضًا للخير وتُذكِّره به، وترشده لبعض تفاصيله.
وقد أدى ذلك كله لخير كثير من الإنسان وللإنسان، حتى وإن خدعتنا بعض الأحداث أحيانا فشعرنا بأن الشر هو الغالب. فوجود هذا الكائن المختار أدَّى ويؤدي لخير كثير، فوجود الإنسانية التي لديها القدرة على الاختيار في حقيقته خير عظيم.
ففي معظم الأسر على هذه الأرض توجد أم؛ تحب وتعتني بأطفالها باختيارها قبل حتى أن يولدوا! ومنذ لحظة ولادتهم ترافقهم في كل خطوة، وفي كل نفس، وفي كل حركة وسكنة! حتى يصبحوا في أفضل حال، وهذا كله خير.
وفي أغلب الأسر يوجد أب، يجتهد ويسعى باختياره من أجل أسرته طوال حياته. وفي أغلب الارتباطات بين الرجل والمرأة توجد رحمة ومودة. ولكثير من البشر أصدقاء يساعدونهم، ويؤنسون وحشتهم، ويشاركونهم ويدعمونهم، وهذا كله خير كثير.
كما ينبث الأطباء في العالم، يداوون الأمراض ويخففون الآلام. وينتشر العلماء يجعلون الحياة أسهل وأفضل. والمدرسون والمعلمون يرفعون الجهل ويدفعونه، وينشرون القيم والأخلاق. والمهندسون والبناؤون يبنون المساكن التي تأوي الإنسان وتحميه، وهكذا.
الخير هو الكثير
وفي كل مكان توجد الأعمال الخيرية، والصدقات والتبرعات، والمتطوعون وأصحاب الأخلاق. بل يصل خير الإنسان أحيانًا للمخلوقات من حوله، فيطعمها ويربيها ويعالج أمراضها ويحفظها وينميها.
فالخير هو الأكثر في خلقة الإنسان وعمله كما يقول الحكماء، وإن اختلف البشر في درجات الخير. بينما من يختارون الابتعاد عنه قلة، وحتى هذه القلة لا تبتعد عنه في كل مواقف وتصرفات حياتها، ولا عن عمد وترصد وإصرار، إلا في القليل النادر جدا.
لكن ما ذنب الإنسان الذي يتعرض من غيره لظلم أو أذى؟ وماذا عن الإنسان الذي يموت في زلزال أو بركان أو بسبب مرض؟ حتى وإن أدَّى ذلك لخير لنظام الأرض كله فما ذنبه هو؟
كما قلنا ما نراه شرًا قد يكون خيرًا إذا نظرنا للصورة الكلية، فعندما ننظر للصورة الكلية ونضع اليوم الآخر في الحسبان يصبح هذا كافيًا لدفع هذه الشبهة، فمن تعرَّض لظلم من غيره من البشر في هذا العالم، أو تعرَّض لابتلاء ما؛ فله تعويض عظيم بعده يُنسِيه تماما ما حدث له، كما يؤكد العقل وتُبشِّر أغلب الديانات.
ووقوع هذا الظلم وهذه الابتلاءات هو معنى ِكون الإنسان مختارًا، فما معنى الاختيار إن كان الإنسان مجبرًا دائما على التصرف بطريقة معينة دون أي ظلم؟ وما معنى الاختيار إن كان كل ما يواجهه الإنسان يتماشى مع هوى نفسه؟
الاختير الحر
فالاختيار الحقيقي معناه قدرة الإنسان على الظلم أحيانا، والاختيار الحقيقي يؤدي إلى أن يجد الإنسان نفسه في مواقف معينة تخالف هواه ويحتاج أن يتخذ فيها قرارًا إما أن يتبع هواه أو يتبع الحق. فقدرة الإنسان على الاختيار في حد ذاتها خير كثير، والابتلاء ليس شرًا إلا لو اختار الإنسان بإرادته التامة ألا يَنصاع للحق فيه، وأن يترك فطرته وعقله، ما عدا ذلك فهو خير له، وينتظره بعده خير كثير في اليوم الآخر.
وتؤكد هذه الرؤية السابقة كلها ما يثبت بالبراهين العقلية القطعية، فقد ثبت أن للكون خالقا، يتصف بالكمال المطلق والخيرية المحضة والجمال البحت، وفعله كله كمال وخير وجمال، والجميل لا يَصدُر عنه إلا جميلًا وخيرًا!
عالم من الخير
فالعالم الذي نعيش فيه -والذي قد نصفه لحظة انفعال بأنه عالم من الشر- هو في الحقيقة عالم من الخيرات، فالوجود في حد ذاته خير، وفرصة الوجود في هذا العالم والتمتع بجماله ونظامه خير، وفطرة الإنسان والكائنات تسعى للخير، والنعم والمتع والملذات والجمال في هذا العالم خير، وما نظنه شرًا هو في حقيقته خير من زوايا عديدة، ومن تعرَّض لظلم أو أذى في هذا العالم فليستبشر بخير كثير كثير فيما بعده!
فما أجمل المُوجد وعالمه! خير على خير! وخير من خير!
طالع أيضا:
بلا حدود “نحو الإنسان السوبرمان العاقل”
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط
ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب