إصداراتمقالات

عابد الفيلسوف

في لحظة بدت وكأنها منفصلة عن الزمان والمكان، جلس عابد في غرفته المغلقة المظلمة، مُغمِضًا عينيه محاولًا إخفاء الدموع بداخلها، والتي كانت من فيض ضيقه وحيرته ” تعتب من كثرة التيه الذي أحيا فيه، أين الصواب ، أين طريق الحق، ومن أين أبدأ، أسئلة كثيرة وقديمة، وبلا إجابة ! “

رجع بذاكرته إلى الوراء، طفل ذكي ، وكأي طفل هو دوما يسأل عن العلل وراء ما يرى ويسمع ، يسأل ليفهم ، ويُكوِّن تصورات ومفاهيم في عقله الغض الصغير، ولكن ما من إجابة كانت تروى ظمأه لأن يعرف، أو تجيب أصوات استفهاماته العديدة. ومرت السنوات ،واعتاد الوضع، أغلق على نفسه، وأغرقها في القراءة بلا توقف أو ملل ، وسكت لسانه عن السؤال ، ولم يتوقف عقله عن التفكير ، أو تهدأ نفسه من الحيرة والسعي لمعرفة ما خفي وراء كل ظاهر. يبدو لا مبالي لما حوله ، ولكن بداخله ثورة لا تهدأ، لا يفعل أي شيء حتى يقتنع به، ويناقشه، مُعلنًا موقفه من الجميع: ” إن كنتم لن تجيبوا عن أسئلتي فليكن!

حسنًا إذن! لا بأس! ولكننى لن أفعل أي شيء دون أن أفهم أو أقتنع! لن أفعل! ” وباتت حياته سلسلة من المشاكل، فهو كثير النقاش في أي وكل شيء سواء كان يستحق النقاش أو لا ، يستغربه من حوله ، يتأففون منه ، ” غريب ” ، ” فاكر نفسه حاجة” ، ” سيبه يابني ، ده هايتفلسف ، مش ناقصاه” !! ، ” يابني يا حبيبي طريقتك في الحياة غلط ، الفلسفة دي هاتخلي عقلك يشت ، ما هو يا إما تكون عابد ، يا إما تكون فيلسوف “!

البعض الآخر يحاول أن يقترب منه على حذر؛ فهم لا يفهمونه، ولا يستطيعون فك الصلة بين ظاهرة الهادئ الملتزم المتدين، وبين كلماته الغريبة على من حوله ما أن يبدأ بالنقاش مع أي أحد في أي موضوع ! وفي لحظة قرر أن يتوقف ليسأل نفسه، من على الصواب، أنا! ، أم من حولي ؟! وإن كان من حولى هم مَن على صواب، لماذا لا أستطيع أن أفعل مثلهم مع أنني حاولت مرارًا؟ وإن كنت أنا على الصواب، فلماذا أعاني من الحيرة والضيق دوما؟ وكأن شيء ما بداخلي غير راضٍ وغير مطمئن ؟؟ أين المشكلة ؟؟

وبينما هو مستغرق في تساؤلاته، سأل نفسه سؤال مهم؛ إذا كنت أرفض اتباع غيري، فما هو سبب رفضي لهم؟ هل فعلا لأني متأكد من خطأ أفكارهم وأفعالهم ؟ هل ناقشت هذه الأفكار يوما معهم أو حتى مع نفسي ؟ أم سبب رفضي لهم هو لمجرد العناد! ورد فعل لعدم استجابتهم لي وعدم اهتمامهم لاسئلتي ! ولم تكن الإجابة صعبة كثيرا! نعم؛ فرفضي لهم لم يكن على أساس ودليل، حتى قناعاتي لم تكن أيضا على برهان أو يقين، فلم أستطع يوما اتباعهم، ولم أشعر يوما بالراحة أوالطمأنينية ، ولذلك هذه هي بداية الطريق؛ الصدق والتجرد ، فالمشكلة في طريقة التفكير نفسها، والبداية في تصحيحها

اضغط على الاعلان لو أعجبك

 لم تكن المشكلة يوما في خطأ ما يعتقدون أو صحة ما أظن، بقدر ما كانت في أغلال الأفكار المسبقة وتوهمات النفس وموانع التفكير، لم تكن المشكلة كما يظنون بأني أتفلسف ، أو كما كنت أظن بأنهم رجعيون. فالفلسفة لم تكن يوما مشكلة ، بل هي بحث وتساؤل عن أسباب وعلل الأشياء لتكوين مفاهيم صحيحة صلبة يمكن أن ننطلق منها بشكل ثابت على الطريق القويم، بالإضافة إلى أنَّ ليس كل ما ورثناه ممن سبقونا خاطىء أوغير صحيح.

لماذا لا يمكنني أن أكون متمسك بصحيح ديني وقيم مجتمعي، وفي نفس الوقت تكون لدي فلسفة صحيحة في حياتي لا تقبل تقليد أعمى ، أو تقبل فعل دون فهم غايته وهدفه ؟ فلا يوجد تضاد في ذلك ولا يوجد مانع من اجتماع الأمرين في حياتي . الأمر إذن في حاجة فقط لإعادة التفكير مرة أخرى بشكل سليم، يكفل لنا أن ننطلق من مقدمات صحيحة حتى نصل لنتائج واضحة وافية ثابتة ، فتتضح لنا الرؤية ويستنير أمامنا الطريق .

منى الشيخ

مطور برامج

باحث بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالاسكندرية