ظاهرة التأثير والتأثر في الفكر الإنساني (الجزء الثاني)
لا يزال حديثي موصولا حول هذه الفكرة القيمة، وبعد أن أبرزت هذه الظاهرة في الفكر الشرقي القديم ومدى تأثيره على المدارس اليونانية وكيف تأثر به فلاسفة اليونان ولا سيما في الجوانب الميتافيزيقية والأخلاقية، وفي هذا المقال سأحاول أن أبرز هذه الظاهرة في الفكر العربي عند المتكلمين والفلاسفة والصوفية على حد سواء.
في البداية أطرح سؤالا مهما هل حقا ظهرت هذه الظاهرة واضحة جلية عند مفكرينا العرب؟
للإجابة على هذا السؤال تعالوا معي أطوف بكم حول فكر هؤلاء..
1- المتكلمون:
متكلموا الإسلام المعتزلة، الأشاعرة، الماتريدية، هل تأثر هؤلاء بالوافد الأجنبي؟ أقصد بالتراث الفلسفي اليوناني؟ المعتزلة ذهبت إلى القول بالنظرية الذرية، وأن أصل الكون ذرات ولا يوجد في الكون إلا ذرات وخلاء وحركة، وهذه الذرات تجتمع مع بعضها بفعل المحبة فينشأ الكون، وتفترق عن بعضها بفعل الكراهية ويفسد الكون،
وهذا ما ذهب إليه ديموقريطس متأثرا بالهنود البراهمة، وتلقف أبو الهذيل العلاف وإبراهيم بن سيار النظام المعتزليين هذه الفكرة فيما أسموه بنظرية الجزء الذي لا يتجزأ (الذرة)، والتي أثبت العلم الحديث انشطارها وتفتتها إلى جزيئات.
كذلك ظهر تأثر الأشاعرة بالمعتزلة في إثباتهم وحدانية الله تنزيها للذات الإلهية لكن دون تأويل للصفات الخبرية التي أخبر عنها الله تعالى، كذلك ظهر تأثر الأشاعرة بالمعتزلة في مسألة حرية الإرادة للإنسان، وأن الإنسان مخير، إلا أنهم خالفوهم قائلين الرب خالق للأفعال والعبد كاسب لها، وهؤلاء بدورهم أثروا في الماتريدية فمالت الماتريدية إلى القول أن الله خالق والعبد كاسب مع اختلاف وقت الكسب ووقت حدوثه،
فهل يكسب الإنسان فعله وقت وقوعه أم في تأخر وقوعه؟ أم في تقدم هذا الوقوع؟ كذلك تأثر الأشاعرة والماتريدية بما ذهب إليه أهل الاعتزال في مسألة الإمامة هل بالانتخاب الحر المباشر؟ أم بالتعيين؟ وهم في ذلك خالفوا الخوارج وتوجهاتهم السياسية وأن الإمامة بالتعيين، إلا أن المعتزلة رفضت القول بفكرة العصبية وأن الأئمة من قريش وخالفهم في ذلك الأشاعرة والماتريدية.
2- فلاسفة العرب:
الكندي
إنه لا يمكن حصر فلاسفة العرب جميعا، ولكنني سأكتفي بمن تأثر وأثر تأثرا وتأثيرا فعالا، وأذكر من هؤلاء فيلسوف العرب الكندي الذي كان يتقن لغات كثيرة منها اليونانية، وبالضرورة قام بترجمة مؤلفات أرسطو، ومن تأثره بأرسطو تعريف أرسطو للفلسفة بأنها البحث عن العلة التامة، العلة الفاعلة،
يقول الكندي: “الفلسفة هي محاولة البحث عن الحق الأول”، كذلك ننظر إلى تعريف الكندي للفضيلة، قال عنها: “الفضيلة هي التوسط والاعتدال” أليس هذا التعريف هو تعريف أرسطو؟ ثم حديثه عن قوى النفس وتقسيم النفس إلى شهوية وغضبية وناطقة أليس هذا تقسيم أفلاطون؟
أما عن تأثيره في من جاء بعده سنجد تأثيره على الفارابي وخصوصا في مسألة التوفيق بين الفلسفة والدين وأنه ليس ثم خلاف بينهما، وكذلك تأثر الفارابي به في إثبات وحدانية الله وحديثهما عن الصفات الإلهية وأن الله واحد أحد فرد صمد وأن الله ذو علم وحياة وإرادة وفعل.
الفارابي
وإذا ما تركنا الكندي واتجهنا إلى الفارابي نجد من شدة تأثره بأرسطو لقب بالمعلم الثاني، فنجده تأثر به في تعريفه للفلسفة، يقول: “هي دراسة الوجود بما هو موجود” أي دراسة الوجود دراسة كلية شاملة، كذلك نجد تأثره بأرسطو واضحا جليا في حديثه عن العالم وأن العالم قديم قدم علته أو قدم المادة التي أوجد منها،
وكذلك في إثباته لوجود الله واعتناقه لفكرة المحرك الأول حتى وإن كان قد غير مسماها وأطلق عليها دليل العلية أو السببية، والفارابي أثر بدوره في ابن سينا في حديثه عن النفس الإنسانية وتأثره بأرسطو في تعريفه لها وأنها استكمال أول لجسم طبيعي إلى ذي حياة بالقوة.
وكيف أثر بدوره في ابن سينا في هذا التعريف وكذلك تأثر به ابن سينا في أدلة إثبات وجود الله إلا أن ابن سينا نقدهما في دليل الحركة قائلا: “إنه من القبيح أن يصار إلى الحق عن طريق الحركة”، إلا أنهما تأثرا بنظرية الفيض الأفلوطينية _نسبة إلى الأفلاطونية المحدثة_ وفكرة العقول العشرة والعقل العاشر الذي سماه الفارابي العقل الفعال وسماه ابن سينا روح القدس، وقد لاقت هذه النظرية هجوما شرسا من ابن تيمية الذي ذهب إلى القول أن هذه النظرية تحد من القدرة الإلهية، وما أدرانا أن هذه الوسائط عشرة وهل ثمة واسطة بين العبد والرب؟
الغزالي
وعلى الرغم من تأثرهما بأرسطو وبالأفلاطونية المحدثة إلا أنهما قد تأثرا بأفلاطون وخصوصا الفارابي في حديثه عن المدينة الفاضلة، وأيضا على الرغم من تأثرهما بالفكر اليوناني إلا أنهما أبدعا دليلا فلسفيا من عندياتهم ألا وهو دليل الوجوب والإمكان، واجب الوجود بذاته الله وممكن الوجود بالغير الكون،
وعلى الرغم أن ظاهرة التأثير والتأثر ظهرت واضحة جلية عندهم إلا أنهما تعرضا لهجوم شرس من الغزالي، الذي إن طالعنا مؤلفاته في النفس والأخلاق نجده قد تأثر بأرسطو في حديثه عن الوسط الأخلاقي، وتأثر بأفلاطون في تقسيمه لقوى النفس، ظهر ذلك في كتابه الإحياء وفي كتابه معارج القدس ومدارك النفس،
وكذلك تأثر بأفلوطين في كتابه معادلة النفس المنسوب خطأ لأرسطو (أثولوجيا أرسطو طاليس)، إلا أنه وجه سهام نقده للفارابي وابن سينا لقولهم بقدم العالم وإنكار البعث وعلم الله بالكليات دون الجزئيات.
نكمل حديثنا في الجزء الثالث وسأتحدث فيه عن هذه الظاهرة عند ابن رشد وكيف تأثر بابن باجه وابن طفيل وكيف عالج مسالة التأويل وتأثره بقوانين الغزالي في التأويل، ولماذا لقب ابن رشد بالشارح الأعظم وكيف أثرت الرشدية اللاتينية في الغرب الأوروبي، ومدلولات هذه الظاهرة في الفكر الصوفي.