ظاهرة التأثير والتأثر في الفكر الإنساني (الجزء الأول)
بداية لا بد أن أطرح طرحا موضوعيا وليتفق معي من يتفق ويختلف معي من يختلف، فالعلم رحم بين أهله، هذا الطرح هو متى وُجد الإنسان في أي مكان وفي أي زمان يوجد الفكر، إذ بدونه لا يكون فكرا أساسا، فالحيوانات والجمادات لا تفكر، كذلك لا بد أن نقول أن الفكر الإنساني سلسلة متصلة الحلقات إذا انفكت حلقة منه ستحدث هوة وفجوة فكرية أو ستسقط حقبة زمنية.
الإنسان بما هو كذلك يفكر ويعمل عقله، بل هو في تفكير مستمر سيال متدفق عبر الزمان، وفي كل مكان يوجد فيه يفكر في مستقبله، مصيره، مآله، وجوده، موجده، يفكر في ماهية الخير، حقيقة الشرور، طبيعة الحب، ولم الكره، حريته واختياراته. إذن ثمة مادة خصبة متغيرة تتغير بحيوات الإنسان.
منذ أن خلق الله الإنسان على الأرض وأوجد الله الأخوين هابيل وقابيل ظهرت في الآفاق فكرة الخير والشر وهما في صراع إلى أن تقوم الساعة.
ظاهرة التأثير والتأثر ما المقصود بها؟!
1-التأثير أن أؤثر فكريا في من سيأتي بعدي وقد يكون التأثير سلبيا وقد يكون إيجابيا، مرجعيتنا في ذلك المؤثر والمتأثر.
2-التأثر أن يتأثر الإنسان بالمعطيات التي قد يقرؤها أو يسمعها أو يراها، وتأثره قد يكون سلبا أو إيجابا حسب قدرته على استيعاب المقررات التي يتعامل معها.
هذه الظاهرة مهمة جدا لديمومة واستمرارية الفكر الإنساني، شريطة أن لا يكون دور المؤثر والمتأثر كدور الملقن الذي يملي إملاءات والمتلقن الذي يأخذها على عواهنها، لا يفكر فيها ولا يعمل عقله فيصبح ناقلا مقلدا تابعا خاضعا ذليلا، فهذا إن صح تعبيري ليس تأثيرا ولا تأثرا وإنما تبعية بغيضة وفرض هيمنة أحادية الجانب،
وهذا ما حاول أن يفعله بعض المستشرقين مع الفكر العربي، أرادوا جعل المتلقي العربي تابعا أمينا لا يفكر، وحتى إذا أراد ذلك فلا بد أن يستمد فكره من الغرب وتلك هي العنصرية الفكرية الممقوتة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على خواء فكري لصاحبها، وهذا ليس تأثيرا ولا تأثرا. لو أردنا تأثيرا وتأثرا حقيقيين أنت خذ مني وأنا آخذ منك عن طريق تبادل الرؤى والأفكار والحوارات الفكرية البناءة لا أن يكون حوارا من طرف واحد.
تعالوا نستعرض هذه الفكرة بشيء من التروي..
ا- حضارات الشرق القديم:
الحضارة المصرية القديمة، الحضارة البابلية، الحضارة الفينيقية، الحضارة الهندية، الحضارة الصينية، الحضارة الفارسية، ما هو الأثر الذي تركته هذه الحضارات فيمن جاء بعدها من حضارات أخرى؟ وما الذي أثرته في ما بينها؟ نأتي إلى الحضارة المصرية، ألم يتحدث المصريون القدماء عن فكرة العدالة (الماعت)؟
وقد تأثر بهذه الفكرة حكيم الصين كونفوشيوس ومن بعده تلاميذه وتحدثوا عن عدالة الوسط وأنه لا نميل إلى جانب على حساب الآخر، ألم يتحدث المصريون القدماء عن النفوس الغاضبة والشاهية والحكيمة؟ وتأثر بها أيضا تلاميذ كونفوشيوس، ألم يتحدث أصحاب الحضارة الهندية عن مفهوم الفضيلة إفعل ولا تفعل وإذا خالفت ذلك كان فعلك مرذول؟ ألم يتحدث الزرادشتيون عن إلهين أحدهما للخير والآخر للظلام؟
ألم يتأثروا في ذلك بالصابئة عباد الكواكب والنجوم أن الكون يخضع لإلهين إذا اختلفا حدث ما لا يحمد عقباه وقامت القيامة؟ كل ذلك ألم تتأثر به الحضارة اليونانية الغربية التي يدعي غير المنصفين من بعض المستشرقين أنهم أساس الحضارة والتنوير وأن الفكر الفلسفي خلق عبقري يوناني أصيل؟
هذه هي العنصرية المقيتة المتمثلة في التفرقة بين الأجناس، الجنس الآري الأوربي الأبيض المتفتح الباحث الذي يبدع، والجنس السامي الشرقي المتخلف ومنهم الجنس العربي المتلقي الذي ليس له هم إلا المأكل والمشرب والملبس ويحتاج من يفكر له.
ب- مظاهر هذا التأثر:
بدءا من المدارس اليونانية الأولى ولنأخذ على سبيل المثال ديموقريطس فيلسوف الذرة، من الذي أوحى إليه بفكرة الذرات التي هي الإله وذرات للخير وذرات للشر؟ أوحى إليه ذلك الحضارة الفارسية، هذه واحدة، الثانية ما الذي جعل ديموقريطس يقول الذي يقدم على فعل الخير يقضي نهاره مسرورا ومنشرح الصدر؟ الروح الشرقية والتصوف الشرقي -وسنري كيف أثر ديموقريطس في الصوفية.
نترك ديموقريطس ونتجه إلى سقراط، مفهوم العدالة التي تحقق السعادة وفضيلة العمل وفكرة القوانين المكتوبة والقوانين الإلهية كيف لها أن تتشابه مع قوانين حمورابي؟ هذه واحدة، أما الثانية ألم يتحدث سقراط عن قيمة معرفة النفس؟ ألم يتحدث عن أن الفضيلة علم والرذيلة جهل؟ نترك سقراط ونتجه إلى أفلاطون ألم يزر مصر ويمكث بها فترة من الزمن عندما تحدث عن كيفية ضبط قوى النفس ولا بد للنفس الحكيمة أن تضبط إيقاع النفسين الشاهية والغاضبة؟
ممن استقى هذه الأفكار؟ من ظاهرة التأثر والذي بدوره سيؤثر في من سيأتي بعده، وإذا ما تركنا أفلاطون واتجهنا إلى عقل يونان المدبر أرسطو وحديثه الشيق عن الوسط الذهبي وأن الفضيلة تقع بين طرفين كلاهما رذيل والإنسان على حد قوله إذا أراد أن يبق تحت عرش الله لا بد أن لا يميل إلى طرف على حساب طرف أخر، هذا قليل من كثير عن ظاهرة التأثير والتأثر.
في الجزء الثاني سنرى كيف أثر هؤلاء في من جاء بعدهم من فلاسفة ومفكرين ومتكلمين، ثم في الجزء الثالث نرى كيف أثر هؤلاء في أنصار الفكر الحديث والمعاصر خصوصا في ديكارت وكانط واسبينوزا وغيرهم.