نبل ولُؤم
النبل واللؤم وصفان جامعان –في رأيي– لمعظم المحامد والمذَمَّات، والإنسان يقف من جهة الأخلاق بين ثلاثة مستويات:
الأول: الإنسان الشريف المهذَّب الذي يغلب عليه المروءة والوفاء والخلق الحسن، ولا يخلو من بعض الضعف والخطأ لكن ليس ضعفه شينًا، ولا خطؤه كبيرة من الكبائر، بل هو ضعف إنساني مقبول، فإن الكمال ليس من صفات البشر.
الثاني: الإنسان الطبيعي الذي يتقلب بين نفسه الأمارة بالسوء ومعدنٍ طيب يأمره بالخير ويشُدُّه إليه، وهو ليس في مكانة الأول الذي أكثر العهد به أن يكون خيرًا مُرْسَلًا، لكن الإنسان الطبيعي يصيب ويخطئ، وقد يرتكب خطأ كبيرًا لكنه لا يفعله سعيدًا أو تميل نفسه إليه، بل يندمُ، ولا يرضى الإقامة عليه، لكن الصغائر قد تغلبه، ولا يخلو من خير في أوقاته جميعها.
الثالث: المرتبة الدنيا، وهي الإنسان اللئيم الخبيث كأنه نبت في بيئة عَفِنَة، شرُّه ظاهرٌ، وإسراعه إليه مضمون، وخيرُه نادر يأتي على غير قصد منه، وإن قصده فعلى جهة الشذوذ لا الأصالة، الكبيرة عنده حاضرة ولا تنفر نفسه منها، والصغيرة عنده طبع وأصل، ورجاء الخير منه كانتظار الشمس أن تطلع بالليل.
معنى النبل
والنبلاء كالنجوم في المجتمع هداةٌ مهديُّون يتلألؤون نورًا يهتدي بهم الناس، ويعمُّ خيرهم، وهم زينة الدنيا وحلاوتها.
النبل معنى يشبه معدن الذهب نقي قيمته لا تتغير، ويظل أبد الدهر، النبل ميل إلى الخير في كل أمر، ومسارعة حضور الصدق والبذل والمساعدة والإخاء في النفس عند تجدد المواقف، النبل بُعْدٌ عن الغيبة والنميمة وسوء الظن والمسارعة إلى الإيذاء والحسد والحقد. النبل عطاء بملءِ الكفِّ وسماحةِ النفس، ولا يخلو النبيل من زلل كي تبقى سنة الله في الأرض أن النقص من صفات البشر.
معنى اللؤم
أما اللؤم فهو خبث كالماء الآسِن لا تستسيغ شربه وإن متَّ عطشًا، وتأنف أن تغتسل به من وسَخ، يزكُمُ أنفَك ريحه، ولا تتذوق طعمه، لؤم النفوس شحٌّ شحيح، ومنْعٌ للخير، وكراهية له، حسد فاجر، واستشراف للظلم، اللئيم خَطَّافٌ لما يجد، لا تميل نفسه لخير، ويستحيل أن يمرَّ بفكر صاحبه المبادرة إلى الخير، وإنه ظلام وظلمات، لا يجلِّيه إلا شمس إيمان وهيهات.
الناس في هذه المستويات درجات ودركَات، وقد يتقلبون بينها في أطوار حياتهم، أو اختلاف ظروفهم وأفعالهم، والمتقلبون ينتمون إلى المستوى الثاني الطبيعي. إلا أن الإنسان إن غلب عليه النبل وارتقى فيه درجات وسما فيه سماوات عزَّ عليه أن يتلاءَم، وبَعُدَ عن طبعه التصاغر، ولم تطاوعه طبيعته على إتيان مَنْفُورٍ منه، واجتمع في معدنه الذهبي ذهبُ النبلِ وصاغته في أجمل صنعة يد الحياء، فبدا قطعة ذهبية فنية.
كما أنه كلما هوَى إلى دركات التسفُّل، وسيطرت على نفسه خبيئة خبيثة كالهواء الفاسد والماء الآسن والأرض السَّبِخة عز على فسيلةِ الخير أن تنبت في أرض قلبه، فأرض قلبه لا تحفظ الماء، ولا يرويها، ولا تنبت الخير، إنما هي أرضٌ سُوَّاخَى. ومن هذا شأنه كان نشاطه لأصغر فعال الكَرَم والخير أعزَّ من الكبريت الأحمر.
وتلك الأمور عند التأمل بادية، فكيف تدركُ النفوس الخبيثة المعاني الشريفة فتنشط لأفعال النبل والكرم؟ إنه أمر محال!
صفات النبلاء
إن النبيل يُعْرَفُ بصدق الحديث، والبعد عن لَمْزِ الناس وهَمْزِهم، وعفة النفس عن التطلع لما ليس له، وإن أراد لنفسه خيرًا لم يتمنَّ زوالَه عن أحد، ليس من الخيانة ولا هي منه، بل الوفاء ديدَنُه، يغفرُ ذنبَ أحبتِهِ المرةَ بعد المرة، ولا يسارع لشِقَاق، ولا يمنُّ بمعروفٍ، ولا يرَى لنفسه على خاصَّتِه فضلًا مهما بذلَ لهم، وإن عوتب استرضى معاتبه، وإن غِيبَ عنه لم تتبدَّل محبَّتُه، ولا يمكر –وإن كان يجب ألا يتغاضَى عن مكر أعدائه– ولا تَلْقَسُ نفسُه، مأمونُ الجانب، لا يحمله الغضب على تجاوز الحدِّ، ولا تقصيرٌ على عدم الوفاء بواجب، لا يؤاخذُ بالظنِّ، ولا يسرع بسوءِ ظنٍّ، بل يجاهده ويطرده، إن شئت فالنبل قرب من الملائكة الذين لا يَعْصُون.
واللؤم بخلاف ذلك أبدًا، فاللئيم لا يُؤْمَنُ جانبُه وإنْ وعد ألفًا وآلى حَلِفًا، ولا يُنْتَظَرُ خيرُه إلا أنْ يَلِجَ الجملُ في سَمِّ الخياط، إن وعد غدَر، وإن قدَرَ فجَر، وإن تكلَّمَ كَذَبَ، وإن زُجِرَ خَنَس، لا ترجى مودته فهو أعْيَثُ من ضبعٍ، لا يبقي ولا يذر، وفاؤه شَذْرٌ، وعطاؤُه نَزْرٌ، لا يَتَفَصَّدُ نِيَاطُ قلبِه عن ماءِ عَطْفٍ ولِينٍ، إسراعه إلى الشر إسراعُ النار في الهشيم، ومع ذلك اللؤم دركات، وأسفله أقرب إلى الشيطان منه إلى بني الإنسان.
وليس ثَّمت قارب نجاة من ضراوة النفس إلا إلزامها الخير، وتربيتها وتعهدها، وعدم اليأس منها، وتغذيتها بالإيمان الصحيح وفعل الصالحات، وليس ثَمَّ منجاة للناس في مجتمعاتهم إنْ ساد جُهَّالهم وغلب اللؤم عليهم، وتفشت صفاته وآثاره فيهم فأُعْضِلُوا بمعالجته.
فالنبلَ النبلَ، وكما قال الإمام البوصيري:
والنفسُ كالطِّفْلِ إن تُهْمِلْهُ شبَّ على حبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
فاصرفْ هواها وحاذِرْ أن تُوَلِّيَهُ إن الهوى ما تولَّى يُصْمِ أو يَصِمِ
مقالات ذات صلة:
الأخلاق ما بين الجاهلية والحداثة
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا