مقالات

صراع القيم

لا يخلو أي نزاع، قديما أو حديثا، مسلحا كان أو غير مسلح، من تنازع ظاهري متجسد في الحرب العسكرية أو الأعلامية الكلامية، أو حتى الغزو الفكري، وصراع آخر خفي هو في الأساس أصل النزاع، والباقي وسائل، وهو صراع حول القيم الحاكمة للواقع من حولنا…

والتاريخ مليئ بالنماذج ذات الدلالة على هذا المعنى، فمنذ بداية الخليقة حتى يومنا هذا تعتبر صراع القيم محور النزاع بين البشر، فتارة نجد الأنا والتعالي في مقابل نكران الذات والتواضع والتسليم لإرادة الله حينما نشأ الخلاف بين أخوين، ومرة أخرى نرى صراع قائم بين من يريد أن يحمي المستضعفين، وأخر يريد أن يستعبدهم وقد تجسد ذلك في قصة النبي موسى مع حاكم مصر، وبعدها استغلال حاخامات بنى إسرائيل لحاجة الناس المادية في زمانهم، وإقراضهم بالفائدة التي أثقلتهم بالديون والفقر ومواجهة أنبياء بنى اسرائيل لتلك الظاهرة وظواهر أخرى من استغلال الناس باسم الدين زورا وبهتانا.

في الحقيقة كل هذه النزاعات هي بالأساس تجليات تعكس صراع بين القيم، وإن تنوع وتبدل سواء في الطرح أو المواجهة.

والمتابع للوضع الحالي لمجتمعاتنا على المستوي الخاص، والمجتمع الإنساني على المستوى العام، يلاحظ، إن دقق النظر قليلا، بأننا نعيش نفس الحرب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أضف لذلك أنها أصبحت تقريبا في كل القيم لدرجة جعلت الموازين تختل، بحيث أصبح من العسير على غالبية الناس التميز بين الحق والباطل، وهذا ليس بمبالغة، فالكثير منا اختلط، ويختلط عليه الأمر في عديد من نواحي الحياة، والأمثلة في هذا الزمان كثيرة، ولكنها في نفس الوقت محيرة جدا. ليس لأنها مجهولة السبب أو التأثير، وإنما الحيرة حاضرة بسبب كونها معلومة السبب والتأثير!!

ورغم ذلك فالأغلبية غير مدركة، أو تعاني من انسحاق تام تحت وطئة هذه الحرب- الجديدة من حيث الشكل، والقديمة من حيث المضمون- فقد تحولت وتبدلت كثير من المعاني المعبرة عن قيمنا الأصيلة، فتجد تارة الأسرة، التي هي بناء المجتمع الأساسي والتي تعمل من أجل رعايتها كل الانساق في البناء الاجتماعي، قد تم تدمير هذا البناء. والذي بات  مقدمة لانهيار المجتمع؛ فبعدما كانت قيم التواصل العائلي هدفها نقل الخبرات بالمعايشة والقدوة وسماع تفاصيل حياة كل فرد، تم استبدال هذا التواصل الجوهري لاستمرار الأسرة إلى وسائل بديلة، تحل محل التواصل بين الأسرة، وذلك على محاورعدة، فالإعلام مثلا يقدم دعاية مجانية لمجموعة من القيم هي في أغلب الأحيان مغايرة لقيم وأخلاقيات المجتمع فحل التسيب محل الانضباط، سواء السلوكي أو الحواري.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فوجود سلوكيات جديدة بين الأب والأبناء يغيب فيها تقدير الأب، هي نتاج ما يبث من قيم تخالف دور الأب القدوة الذي يمثل النموذج الإرشادي لأفراد الأسرة، والذي يعبر بصورة سلوكية كلامية عن تواجد نموذج مخالف لما يبث.

وهنا يبدأ هجوم موجه من إعلام وصحافة ومفكرين وأدباء لتغيير القيم السائدة في أي مجتمع لتوافق القيم الجديد المطلوب إحلالها… وقد يتطلب الأمر نزاعا بشكل مسلح في حالة فشل القوى الناعمة في إحداث الانقلاب القيمي الإحلالي،  فتبدأ الاّله العسكرية بأخذ زمام المبادرة، والأصل أن في هذه المرة أيضا من استدعت التدخل العسكري هي القيمة التي يجب أن تحل محل القيم الاجتماعية الأصيلة، والمراد تغييرها ليسهل تنميط الشعوب على نمط هو أيضا نابع من قيم، فتارة تجد صراعا بين معسكرين يدعي كل منهم امتلاكه حقيقية سعادة البشرية والنظام الأصلح لإدارة شؤون العباد، أحدهما ينادي بالسعادة الحرة المطلقة للفرد وأن يمتلك كل ما يستطيع امتلاكه، وآخر قال إن الحرية في أن يتساوى كل الأفراد وتلغى الملكية الفردية في مصلحة المجموع الوطني أو القومي العرقي، وقد أدى هذا الصراع لقتل وتشريد مئات الملايين في حرب عالمية أولى وثانية.

واليوم أيضا يتجدد صراع القيم ، من أجل قيمة يتم الترويج لها من وسائل الميديا بشكل عام، وأخرى تناقضها، مما أدى لفناء من نوع آخر، ليس موت أفراد هذه المرة، بل موت أرواح الكثير، عندما غاب المعنى السامي عن حياتهم ومعيشتهم، حتى صرنا نرى غياب الغاية والهدف من الحياة أصلا وهذا أخطر من قتل النفس، لأنه يجعلها ظاهريا على قيد الحياة ولكن في حقيقتها حياة مليئة بالموت واليأس والعدمية.

التفاصيل كثيرة والشواهد أكثر، ولكن إذا كانت القيم هي الأساس في أغلب صراعات البشر فلماذا لا نجعل من التحقق منها هدفا أولى يجعلنا ننجوا بأنفسنا من هذه الحرب الخادعة، والتي ننسحق فيها دون أدنى وعي، ويكون ذلك بالتحقق قدر الإمكان من الكثير من المعاني والقيم التي تبث لنا في كل نواحي الحياة.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.