رمضان كريم!
بجوار المسجد مقهى، كلاهما مزدحمان؛ شبابٌ يُصلي، يبكي ويشكو بثه وحُزنه إلى الله، وشبابٌ تعلو ضحكاته ويبث شكواه دخانًا يُصافح وجوه المصلين، تناقض يُجسد الحالة العربية بامتياز..
إنهم المنسيون، الموجوعون بالوطن، وقد افترقت بهم السُبل! وما بين هؤلاء وأولئك، تنساب في عقلك، وأمام عينيك مشاهد متتالية، تتساءل ليلًا أو نهارًا عن تفسير لها دون جدوى، إنها عبقرية التناقضات العربية في شهر رمضان!
حال المصلين داخل المساجد الآن
قبل سنوات ليست بعيدة، كنت تدخل المسجد فتجد وجوهًا ضاحكة مستبشرة، تخلع مع حذائها عند باب المسجد هموم الحياة وإن كثرت، التماسًا لرحمة الله ورضوانه.
هذا ما لا تجده اليوم، فما أن تدخل المسجد حتى تجد وجوها مكفهرة، متعالية، توشك أن تصب عليك جام غضبها، حتى ليظن أحدهم أنه يمُن عليك بالوقوف إلى جواره،
والويل لك إن مسست أصابع قدمه بأصابع قدمك بُغية استواء الصف، لا لكونه حريصًا على تنفيذ إجراءات التباعد الاجتماعي، وإنما لأنه لا يعلم أن استواء الصف يعني استواء القلوب والعقول أمام الله!
حالة الهروب بعد الصلاة حالة تستدعي إعادة النظر
يدخل بعضهم المسجد لأداء صلاة العشاء، فما أن يُسلّم الإمام حتى تجدهم متزاحمين عند باب المسجد للخروج في مشهدٍ أشبه بالهروب الجماعي من شيء ما!
وقد ينتظر أحدهم لأداء الركعات الأربع الأولى من صلاة القيام، ثم يُولي هاربًا، لتجده بعد الصلاة جالسًا بلا عملٍ أمام بيته أو محله! قد يكون للبعض عُذرهم، لكن أكثرهم تجدهم هائمين على وجوههم في الطرقات دون جدوى،
يرتكب الناس ذنوبهم بإتقانٍ وتأنٍ ورسمٍ سابق وخططٍ محكمة وإعدادٍ قديم، فإذا تعلق الأمر بالخالق خطفوا له ركعات ثم فروا! هذا المشهد المتكرر يستدعي إعادة النظر في مفهوم الصلاة ومغزاها لدى كثير من المصلين!
تنفير الأطفال من الصلاة في المسجد
يُصر بعض الأطفال على الذهاب مع ذويهم إلى المسجد لأداء الصلاة، تعبيرًا عن فرحتهم بالشهر الكريم وما به من طقوس ذات طابعٍ خاص.
يقف أحدهم بجوار أبيه أو جده أو أخيه الأكبر ملتزمًا بآداب الصلاة دون ضجر أو تشويش، ورغم منعه غالبًا من الوقوف في الصف الأول خلف الإمام مباشرة، لإتاحة الفرصة لتقدم أولي الأحلام والنهي (لتنبيه الإمام على سهوٍ إن طرأ، أو استخلاف أحدهم إن تتطلب الأمر)،
إلا أن الطفل لا يسلم غالبًا من فقه أحد ذوي اللُحي الطويلة الذي ينظر إليه وإلى مُصطحبه شزرًا، ثم يُصدر أوامره بترك الطفل في الصف الأخير، في إصرار غريب على تنفيره من الصلاة في المسجد! هممت ذات مرة بمراجعة بعضهم فقهًا وعقلًا، لكني تذكرت أن دوجماطيقيتهم أقوى من أية مراجعة!
التعامل في المصالح الحكومية أثناء نهار رمضان
إن ساقتك الظروف إلى مصلحة حكومية في نهار رمضان، رأيت وجوهًا كالحة، عليها غبرة، ترهقها قترة، إلا من رحم ربي، وكأن الصيام عقابٌ يستدعي العقاب!
النفاق والتفاخر
أكثر ما يتجلى في الموائد الرمضانية ودعوات الإفطار المنزلية هو النفاق والتفاخر والتبذير، وغالبًا ما يكون المدعوون من الأغنياء أو ذوي المناصب (صغيرة كانت أو كبيرة)!
مكبرات التلوث السمعي
افتتاح محل على الشارع الرئيس، مقاعد ممتدة على الرصيف، وسيارات تقف متراصة إلى منتصف الطريق، مكبرات صوت ضخمة تبث سمومها من الأغاني الهابطة لساعات،
لا أظنها سوى مكبرات جهل، مكبرات تخلف، مكبرات تسيب، مكبرات تحدٍ للقانون وللرقابة الغائبة، مكبرات تلوث عقلي وحضاري لا مثيل لها في أي من دول العالم.. مكبرات للصورة الفعلية لعصرٍ نكابده ويكابدنا!
ازدحام المقاهي بعد الإفطار
كرسي على المقهى يعني غالبًا عاطلاً أو مُغيبًا، أو بالأحرى قوة بشرية معطلة أو مُغيبة! هذا أقل ما يمكن أن يوصف به مشهد ازدحام المقاهي بعد الإفطار: هذا يلعب وذاك يُدخن،
هذا يضحك وذاك يسب ويسخر، هذا يُشاهد التلفاز وذاك يُحلل ما عنَّ له من أحداث، هذا يتأمل العابرات من النساء، وذاك يضع قدمًا فوق الأخرى مستسلمًا لبطنه الممتلئ!
اذكر لي أمة في تاريخ البشرية بها كل هذه الموارد الطبيعية والبشـرية والصناعية والزراعية والفكرية والتاريخية والحضارية والجغرافية والاجتماعية والطائفية، ثم تصمم على أن تكون أمة عاطلة، باطلة، همجية، عبثية، تصمم على الهيافة بإصرار يدعو إلى الإعجاب!
فتاوي بعض الدُعاة في رمضان
يُتحفنا بعض الدُعاة في رمضان كل عام بفتاوى من قبيل: حكم استخدام شطافة الحمام في نهار رمضان، حكم إزالة شعر العانة والإبط باستخدام الليزر، حُكم استنشاق الروائح والأدخنة، إلخ!
نريد فتوى توضح حكم الإلغاء الجمعي للعقل، والتسطيح القومي للوعي، والتلويث العمدي للقيم في نهار رمضان!
التحدي الحقيقي خلال شهر رمضان
أخيرًا، التحدي الحقيقي الذي تعيشه كل يوم، وكل لحظة، في منطقتنا العربية، خلال شهر رمضان، هو أن تغادر بيتك كقطعة واحدة كاملة،
ثم تعود إليه مرة أخرى كقطعة واحدة كاملة، التحدي الحقيقي أن تعود إلى بيتك ككائن بشري طبيعي، وألا تتحول– تحت أي ظرف– إلى شظايا إنسان أو بقايا عقل!
تشعر بين غزاة الشوارع وكأنك بين أمواج متلاطمة من العقول والسلوكيات الفجة، تتعذر معها الرؤية، وينسحب العقل، ويتبدد الأمل في الحاضر والمستقبل!
رمضان كريم!
اقرأ أيضاً:
كيف نرمم نفوسنا المنهكة في شهر رمضان
رمضان جه بمسلسلاته وكنافته وبابا غنوجه
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا