شطافة الحمام المُفطِرة لصائم رمضان – العقل يتساءل
فتوى فقهية
قبل أن ترفض وتنتقد اعلم أن العقل يحتاج بعض الوقت ليفكر.
موجة عارمة من السخرية اندفعت على مواقع التواصل الاجتماعي أثناء شهر رمضان والسبب فتوى فقهية بالغ البعض في تصنيفها كأغرب فتوى في أحكام الصيام على الإطلاق، الفتوى تقول أن استخدام “شطاف الحمام” في نهار رمضان يُفطر الصائم، الكثير ظنها كذلك واندفعت سخريته دون تحقق كافي، ولكن الفتوى تقول بمعنى أدق أن اندفاع مياه “الشطاف” بقوة من شأنه إفطار الصائم إذا وصلت المياه إلى جوفه. هل أصبحت الفتوى أكثر منطقية لك الآن؟ قبل أن تجاوب أود أن أقول لك أن السؤال لن يغير شيء من حقيقة الأمر! هل تعلم المائز بين أحكامنا المنطقية وأحكامنا الذوقية؟!
البعض اتهم الشيخ بالجهل والبعض اتهمه بالتشدد، وهناك من استهزأ به والبعض وعظه بأن هناك موضوعات أكثر أهمية من تلك التفاهات التي يطرحها، والعامل المشترك في ردود الأفعال تلك هو اعتقاد أصحابها أن لديهم القدرة على إعمال عقولهم في الفتاوي الفقهية، وقبل أن نوضح رأي المنطق في هذا الاعتقاد دعونا أولا نوضح البُعد الفلسفي لأصحابه.
العلمانية والعقل
أصحاب هذا الاعتقاد لديهم توجه علماني، ولكن العلمانية الجزئية تُقر بوجود إله ذو سلطة على العالم الأخروي، وأما عالمنا المادي الدنيوي فلا دخل لسلطة الإله التشريعية في تدبيره، الاقتصاد والسياسة والقانون والأخلاق والمعاملات وكل ما يخص إدارة الأمور والتعامل مع الآخر فتلك قضايا للإنسان الحق في تصريفها وتدبيرها بما يتوافق مع تطوره العقلي الآخذ في الصعود بمرور الزمان،
وأما التشريعات الإلهية فهي جميلة ولكن في نطاق زمانها ولا يليق تطبيق تشريع عمره مُقبل على الألف وخمسمائة عام على إنسان القرن الواحد والعشرين المتطور، بل إننا سندعو إلى هدم كل التشريعات التي هي في نظرنا متخلفة، مثلا قد زاد الوعي الإنساني بما يجعلنا نُساوي بين الرجل والمرأة، وبالتالي فالمرأة يجب أن ترث مثلما يرث الرجل، فلا داعي للتمسك بمعطيات الزمن القديم فنحن لدينا مكونات زمنية جديدة، خلق الله لنا العقل وهذا يكفي وأما التشريعات فتخص زمانها ولا تخص زماننا.
التوجهات العلمانية والعقل التجريبي
التوجهات العلمانية لا تعود إلى رجال الدين إلا في أمورها الفردية بشرط ألا يخالف عقلها، يوضح لها رجل الدين كيف تكون علاقتها مع الإله، أما الأمور التي تخص المجتمع فإنها تعود إلى العقل مباشرة، ولكن أي عقل؟، إن تعريف العقل يختلف من فلسفة إلى أخرى، ورغم أنه لم تجتمع البشرية والفلسفات على تعريف محدد للعقل، فإن هذا لا يدعو إلى اليأس فبالضرورة هناك تعريف واحد صحيح والبقية على خطأ؛ فالحق لا يضاد الحق، والحق دائما له تجلي وإلا لانتفى الغرض من الخِلقة،
الاتجاهات العلمانية تؤمن بالعقل التجريبي، عقل الإحصاءات والتجارب العلمية، عقل لا يخضع لقوانين ومبادئ وإنما يخضع لتطور المادة، والأزمة أن النظريات العلمية معظمها ظنية وليست يقينية، وبعضهم يتعارض مع الآخر، مثلاً تقول النظرية “أ” أن الرجل والمرأة متساويان بينما تقول النظرية “ب” في علم النفس السلوكي أن الرجل والمرأة مختلفان، فهناك اختلاف بينهما في نسب الصبر والعاطفة وخلافه، فلأي النظريتين سنخضع؟
وإذا أثبتنا صحة النص الديني وتواتره وبالتبعية يقينيته، فلماذا نضع ما هو يقيني على ميزان ما هو ظني؟ العلمانية تحكم على مدى صلاحية النص بمدى توافقه مع العقل التجريبي، ذلك العقل الظني المتناقض في نظرياته، فالدراسات التجريبية ما هي إلا استقراء عينات ناقصة، ولنطرح سؤال آخر، هل يوجد في النص ما يدل على محدودية زمانه وأنه ليس صالح لكل زمان من الأساس؟!
وهل فعلا الإنسانية في تطور مستمر؟ لا أظن أن مسار التاريخ يدعم ذلك، فعلى سبيل المثال وليس الحصر فكرة الديمقراطية هي في وجهة نظر العلمانية أسمى معاني التقدم الفكري وقد رأيناها في كتب التاريخ تحكم الدولة الإغريقية منذ أكثر من ألفين سنة، ومع ذلك انهارت الديمقراطية وتسافلت البشرية تحت الحكم الروماني وما تبعه، فمسار البشرية في صعود وهبوط وليس في صعود مستمر، حضارات تقضي عليها حروب ثم تنشأ حضارات جديدة ثم تنهار، وهكذا.
المنطق والعقل
المنطق يوضح أن العقل لديه مجموعة من الأفكار والقوانين الأولية البديهية البينّة بذاتها والتي تمثل نقطة انطلاق التفكير الإنساني والتي تحكم كل البشر سواء ارتضوا أم لا، كمبدأ السببية وأن لكل نتيجة سبب، واستحالة اجتماع النقيضين في نفس الوقت والزمان، وغيرها، ومن ضمن المبادئ العقلية أيضا استحسان العدل واستقباح الظلم.
والملاحظ أن تلك الأفكار هي أفكار كلية تنطبق على كثيرين، يُجزم العقل بها، ولكن عندما ننزل على أرض الجزئيات والتطبيق وتفاصيل الحياة فسيحتاج العقل إلى من يعينه على الحكم، بشكل كلي؛ العقل يوجب شكر المنعم ولكن بأي أسلوب يمكنني شكر مزارع صيني؟ وهل هو الأسلوب نفسه الذي يمكنني به أن أشكر أفريقي يعيش في أدغال أفريقيا؟ هل الإثنان سيتقبلان نفس الأسلوب؟ وكيف لي أن أشكر الإله على نِعمه؟
العقل بشكل كلي يوجب العلاقة مع الجنس الآخر ولكن بأي شكل ستكون تلك العلاقة؟ العقل بشكل كلي يوجب تناول الطعام لاستمرار نمو البدن ولكن ما هي الأنواع التي سنتناولها؟ وهل بالتأمل العقلي فقط أستطيع تحديد المفيد من الضار منها؟
أين تكمن الأزمة إذن؟
ثمة مبادئ كلية محفورة في وجدان العقل الجمعي للبشرية ولكن عند تطبيق تلك المبادئ على الأرض يختلف الناس ولا يتفقون على طريقة محددة رغم كونهم من حيث المبدأ متفقين، السارق مثلا قد تجده يظن أنه يحقق العدل! نعم فهو يأخذ حقه المسلوب ويعاقب من يستحق العقاب!،
المبادئ واحدة وأما التطبيق فيختلف؛ لأنه كما قال الفلاسفة التطبيق منطقة فراغ عقلي، جزئيات الحياة لا يقدر عليها العقل بمفرده وإنما يحتاج إلى من يعينه عليها من أدوات معرفية أخرى، يحتاج إلى الحواس والنصوص الدينية والتجربة العلمية.
لكل نتيجة سبب، ولكن كيف أعلم أنه لا يوجد قهوة في البيت وبالتالي عليّ الذهاب لشرائها إلا بالاستعانة بالحواس؟
وأما التجربة العلمية فسلطتها على العلوم التجريبية وشئون المادة، مثلا نضع فواصل بين أجزاء الجسر؛ لأن الحديد في الصيف يتمدد بالحرارة، وهكذا.
والأزمة تحدث عندما نتعامل مع الإنسان على كونه مادة فقط فنجعله خاضع للتجربة العلمية ودراساتها الظنية، ولكن في حقيقة الأمر؛ فإن
السلوك الإنساني وتعامله مع الآخرين يخضع للأداة المعرفية الثالثة وهي النص الديني، وسنوضح لماذا ولكن في المحور القادم من المقال.
الفارق بين الحكم المنطقي والحكم الذوقي
والآن نجيب على السؤال المطروح في بداية المقال، الفارق بين الحكم المنطقي والحكم الذوقي، الحكم المنطقي هو الذي يضع الأمر على
ميزان القانون الكلي العقلي ويوظف الأداة المعرفية المناسبة له، مثلا لا أرجو الأخلاق من صديق أصبح فاسدا أو لا أرجو المعرفة من صديق جاهل؛ لأن العقل يقول فاقد الشيء لا يعطيه، ولكن كيف أتعامل مع هذا الصديق؟ بالحث على الطيبات والقضايا الحسنة والنافعة والبعد عن القبائح والفواحش والرذائل أو كما يدعو التشريع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
أما الحكم الذوقي فيكون بالهوى الإنساني والتأثر بالثقافة الشعبية الحاكمة وما هو شائع عموما دون اعتبار للحكم العقلي ومساعدينه من الأدوات المعرفية، فبالتالي لو اتبعت الذوق والهوى سأتملق صديقي هذا إذا كان ذا منصب حتى ولو كان فاسدا، وإذا كان صاحب مجلس مَرح فسأكون دائم الجلوس معه دون أي اعتبارات أخلاقية وإذا سبب لي النفور والضيق سأقطع علاقتي به بلا حد أدنى من الودّ والإنسانية.
الإنسان والفقه
الإله هو الخالق للنفس الإنسانية ويعلم كافة خباياها وكافة العوامل المؤثرة فيها، يحيط بها بشكل تام إحاطة تعجز العلوم التجريبية عليها؛ فالنفس البشرية معقدة جدا ومتشابكة جدا، والإله عندما يضع لنا تشريع؛ فيجب التعامل معه على كون هذا التشريع بالضرورة يحقق مصلحة ما للإنسان حتى وإن كنّا عاجزين عن إدراك تلك المصلحة،
حتى ولو خالف هذا التشريع أذواقنا، حتى ولو عجز المنطق بكلياته العقلية عن إيجاد تفسير له، التشريع الإلهي يُحقق مصالح الإنسان، قد يوضحه العقل الكلي، قد توضحه التجربة العلمية، قد يوضحه نبي معصوم، وسواء وضح أم لا فيجب أن أتعامل معه على كونه يحقق لي المنفعة.
هناك دراسات تجريبية رفضت الإسراف في اللحوم وفي الوقت نفسه رفضت النظام النباتي، وهناك دراسات أخرى تكلمت عن النفس الإنسانية وتكوينها من نفس حيوانية ونفس نباتية ووجوب تحقيق التوازن بينهما، وفي زاوية أخرى نجد التعاليم النبوية تقول بكراهية الإسراف في تناول اللحوم وكراهية الانقطاع عنها فكان النبي محمد مثلا يأكل اللحم بدون إفراط أو تفريط.
بعض أهل التصوف قالوا أن لحم الخنزير يورث الدياثة في النفس؛ لأن هذه طبيعة الخنزير، كيف تناولي لطعام معين يجعلني أتصف بصفة معنوية معينة؟ من الواضح أن هناك تشابك ما بين المادي والمعنوي، والجسد يؤثر في النفس والنفس تؤثر في الجسد،
العقل وموضعه بالنسبة للنص والتجربة
هل يستطيع العلم التجريبي إثبات تأثير الماديات على أرواحنا غير المادية؟ لن يستطيع؛ لأن عوامل كالعوامل البيئية والوراثية وتأثير المواقف الحياتية الفردية التي نمر بها ستحول بينه وبين أخذ نتائج يقينية والوصول لقاعدة كلية صحيحة، فنفس الإنسان متشابكة للغاية وتؤثر فيها عوامل كثيرة،
بعض علماء الأخلاق قالوا أن تناول الخمور يسبب قلة الشهامة والمروءة بينما أقصى أمر يمكن أن توضحه التجربة في هذا الأمر هو تأثير الخمر على الجسد ككونه يُسكر مثلاً.
ثمة أمور نجهلها في موضوع التشريعات الإلهية يعجز العلم التجريبي والذوق الإنساني عن الحكم فيها ولا ينبغي لنا أن نستهين بها، فالإنسان بمحدودية علمه يعجز عن معرفة تمام المنفعة الشخصية والمجتمعية له،
قد يعرف بعضها ولكنه يعجز عن الإحاطة بها، والإله الحكيم العادل أعطى له “كتالوج” ليسير عليه حتى يحقق تمام المنفعة، والسير على هذا “الكتالوج” هو شكل من أشكال العبودية والثقة في الإله المطلق العادل، ثقة الجاهل بالطريق في القائد الذي يسوق.
وإجمالا السلوك الإنساني الجزئي هو منطقة فراغ عقلي يعجز العقل بمفرده عن توجيهه ويحتاج إلى أداة معرفية تساعده، والأداة المعرفية المناسبة هنا هي النص الديني.
من له الحق في الفتوى
لأننا لا نفهم في الطب فعندما نمرض نذهب لطبيب، وعندما ذهبت إلى الطبيب وجدته يُعقم جيدا، على الحائط شهاداته وجوائزه، لبق في كلامه، دقيق في أسئلته أثناء الكشف، فحكمت عليه أنه طبيب جيد، لديّ عقل ولديّ معيار من خلاله استطعت أن أحكم على الطبيب،
ولكن هل معنى ذلك أنني أستطيع أن أعالج نفسي؟ لا، لأني لست متعمق في الطب، لست دارس له الدراسة الكافية الوافية، بعض الاتجاهات العلمانية ترى أن أي شخص لديه القدرة على استنباط الأحكام الفقهية، وهذا ليس دقيق، من يُريد أن يفتي فليتعلم أصول الفقه وليتمكن من أدواته، ومن يُريد أن يتبع فقيه فليعرف المعيار الذي يُمكنه من اتباع الفقيه الصادق العالم الذي يحدث تجاهه الثقة والاطمئنان.
اقرأ أيضا:
النص والعقل، يتكاملان أم يتعارضان؟ .. الرفيق قبل الطريق (الجزء الأول)