إصداراتمقالات

شرنقة التدين وفراشة الإرهاب (2)

لقد ناقشنا ظاهرة #التطرف والإرهاب من حيثيات كثيرة ملخصها في: المنطلقات (الظلم الاجتماعي كمقدمة للتطرف)، ثم البيئة الحاضنة (التدين والدين كمصدر للمنهج والشرعية)، ثم المشروعية والمشروع (تكوين جمهور التابعين وزبانية التطرف والإرهاب وتكوين التنظيم الهيكلي) ،والراعي الرسمي والممول ثم المحرك للكيان المتطرف (الغرب الاستعماري وسعيه للصفقة الذهبية) ،وفي النهاية النتائج المادية والأيديولوجية. وننطلق هنا من هذه النقاط لنجد الحلول ونضع إطارًا عمليًا للإجابة عن سؤال هام: كيف نحمي الفرد والمجتمع من الوقوع في هذا الدرب المشؤوم؟

الطرق المعتمدة حاليا – نظرة تحليلية

كالجراح البارع في مجال علاج الأورام السرطانية يلجأ السياسي أو النظام الحاكم للبتر للتخلص من المشكلة. إن التفكير الحالي على الساحة النظامية والسياسية لا يفكر خارج هذا الإطار في الغالب. فنرى كتجاوب مع أي ظاهرة تحاول تهديد المجتمع أن البتر هو الحل مهما كان الخلل صغيرا أو بغض النظر عن مرحلته العمرية أو الفكرية. طبعا هنا لا ننكر أهمية وفاعلية البتر. فنقول أن اللجوء للبتر يأتي ضمن الحلول ولكنه بالتأكيد لا يأتي أولا وبالتاكيد لا يأتي وحده في باقة الحلول. وهذا هو نقضنا لهدا الأسلوب في التفكير. تخيل لو أن الحل الوحيد لكل مشاكلك الجسدية هو البتر. أي جسد سيبقى بعض كل عمليات البتر هذه؟! جسد معاق تعيس منقسم مشتت تعيس. فكمقدمة للحلول علينا أن نعترف بقاعدتين أن البتر ليس الحل الأول وليس الحل الوحيد.

 

محور منطلقات التطرف

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ينظر الحكيم باختصار لكل مشكلة بعد التفكير العميق والتحليل الدقيق للأسباب الرئيسية كمفتاح لحل الأزمة. لنا في ذلك مثل هام يوضح الرؤية؛ فالماء عندما يسيل في البيت بسبب كسر في المواسير،فإن التفكير لا يتجه نحو تجفيف الماء قبل إصلاح كسر المواسير. لأن كسر المواسير هو العلة الرئيسية للمشكلة أما تجفيف الماء فهو يحل عرض المشكلة لا ذاتها. فإذا طبقنا طريقة التفكير هذه على نموذج التطرف لوجدنا أن السبب الرئيسي ومنبع التسريب هو الظلم الاجتماعي، والذي لخصناه في التوزيع الجائر للحقوق والواجبات والذي يمنع الإنسان من تحصيل كمالاته المادية والمعنوية بالشكل العادل الذي يضمن دائمية واستقامة شؤون الفرد والمجتمع.

فعلينا إذن أن نحل المشكلة من أساسها. فنحن نبحث في الحل عن النظام العادل الذي يحقق السعادة الحقيقية للإنسان. ولن نستطيع الوصول لحقيقة العدل قبل أن نعرف حقيقة الإنسان. فلو وصلنا إلى أن حقيقة الإنسان تتوافق مع النموذج الذي يطرحه الغرب في فلسفته المادية وجب علينا أن نستخرج منهجنا الاجتماعي وفق هذه الفلسفة وأن نراجع أنفسنا في تحقيق النموذج العادل في هذه الحالة في التطبيق لا في التنظير. فمع نجاح النموذج الغربي، علينا أن نُسلِّم بأن له الخبرة والباع الطويل في تنفيذ مشروعه المادي، وضرورة البراءة من أي منهج آخر، واستعانتنا بالغرب المستعمر ليعلمنا كيف ندير شؤون حياتنا لأننا معاقين فكريا لا نستطيع الوصول لسعادتنا إلا بمعونتهم كما يحاول الغرب دائما أن يكرس هذا الإحساس بداخلنا (عقدة الخواجة).

أما إذا وجدنا أن حقيقة الإنسان لا تتوافق مع هذا النموذج (النموذج الغربي المادي) وأن الإنسان له بعد وجودي آخر موازي للبعد المادي له حاجاته وكمالاته التي يسعى نحوها ليحصِّل سعادته. فإذا ما تحققنا ووجدنا الدليل على هذا الواقع المختلف مع الفلسفة الغربية؛ وجب علينا أن نعدل عن تبني النموذج المادي الخاطئ، وأن نطور لأنفسنا النموذج الذي يتوافق مع هويتنا الحقيقية المادية الناطقية؛ لأن في التعريف الصحيح لحقيقة الإنسان مفتاح الوصول إلى سعادته الحقيقية لا سعادته الزائفة والعدمية المادية التي يسجننا فيها الغرب الاستعماري.

فمع مراجعة تفكيرنا الفلسفي والأيديولوجي والواقع الإنساني سنجد القدرة الذاتية على التنظير ثم تطبيق النموذج العادل للمجتمع. هذا النموذج هو الحل الجذري الذي سيضمن -مع تحقيقه للعدالة- جفاف المصدر الرئيسي للتطرف، وفي تلك الحالة فقط لن يلجأ لهذا الدرب إلا عدو صريح غاشم للمجتمع ليس مظلوما أو مقهورا. هنا في تلك الحالة لو لم يُتَحْ معه إلا البتر بعد تجربة مختلف الحلول فإن الغطاء الأخلاقي لتبني هذا الحل سيتوفر مع محاولة المجتمع بكافة الوسائل تحقيق العدل والسعادة ومع إصرار المتطرف على العداء والبغي. أما مع غياب العدل الاجتماعي فسيظل اختلاط المستغلين والمغرضين مع المظلومين والمقهورين إشكالية.

محور البيئة الحاضنة

إن البيئة الحاضنة للتطرف تنطلق من المستضعفين والمقهورين الذين لا يجدون متنفس لغضبهم كما بينا لتشمل أيضا ضعاف النفوس والعقول الذين أعياهم البحث الفلسفي والفكر عن النموذج العادل. إن الإنسان الذي لا يستند على أي أساس فكري سينهار أمام أي غزو فكري جديد. هذا النموذج لم يتضرر بالضرورة من غياب العدالة الاجتماعية بالشكل القاسي الذي يحوله للمتطرف الانتقامي. ولكن سعيه في البحث عن المثالية والعدل لا يزال يؤرقه. فهو وإن كان لم يتضرر من الظلم فإنه لايزال يشتاق للعدل والسعادة بطبيعته كإنسان. وإما لخلل في عواطفه أو لضعف فكري لديه يصبح لقمة سائغة وهدف سهل للاستقطاب المتطرف.

والعلاج هنا أيضا بالعرض -ولا يصل لقوة الحل الأول -لكنه ضروري ومن العوامل المساعدة والمحفزة لطرد روماتيزم التطرف من المجتمع. هنا لابد من أن تخرج للمجتمع النخب الفكرية الأصيلة التي ترسخ في الأذهان حقيقة النموذج الإنساني العادل المبرهن عليه بالعقل والدليل. هنا لا حاجة للإعلام المضلل الذي يخدر الألم ولا يعالجه. نحتاج لعلاج حقيقي للعطب الفكري في المجتمع بالقوافل الفكرية والندوات والصالونات الفكرية والخطب والبرامج التثقيفية التي تهدف لتوحيد الرؤية حول الهدف الحقيقي للإنسان بما هو إنسان (جسد وروح). فبعد أن سعى المجتمع لبناء النموذج الحقيقي الذي يحقق السعادة والتكامل، عليه أن يوصل هذه الفكرة كهدف اجتماعي وغاية، على كل فرد أن يسعى في المجتمع بعمله واجتهاده، وأن يساعد المجتمع ونفسه على بلوغ هذه السعادة. فيتكون هنا جدار ثقافي عازل ومناعة ذاتية للجسد الاجتماعي ضد وباء التطرف و#الإرهاب وتقل نسبة الأهداف السهلة التي يمكن للفكر المتطرف أن يستقطبها.

محور المشروعية والمشروع

إن الفراغ في المجتمع له ضرران. فهو طاقة مهدرة كان من الممكن أن تستغل في وصول المجتمع لدرجة أرقى في نموه وتكامله. كما أنه فرصة يدخل منها المتربص بالمجتمع ليفسد عادات وتقاليد وأفكار وثقافة هذا المجتمع. لا نتكلم هنا عن استعباد الفرد لتتحول حياته للعمل والنوم فقط فهذا ضد الإنسانية. ولكن نقول أن على المجتمع أن يجد المنافذ الصحية جسديا وفكريا لاستغلال الفراغ. فحتى التسلية والمرح لهما جانب مفيد وجانب ضار. فالنظام العادل كالنحلة لا يتعصب لبستان دون آخر، بل يلتقط من كل بستان أجمل ما فيه من الأزهار وأطيب ما فيها من الرحيق، عكس الذباب الذي لا يجتمع إلا على النفايات والقمامة.

فالمجتمع الذي يحيا الحياة الاجتماعية السليمة المتكاملة هو مجتمع عقلاني حكيم في تخطيط حياته ومشاريعه ورقيق لطيف في علاقاته واهتمامه بالفرد والأسرة. فلا نتعجب عندما نجد النظام الاستعماري الغربي يدمر كل أوصال الأسرة ويزرع التشرذم والانعزالية. فالمجموعة قوة تحمي أفرادها ويتكامل بها الفرد عاطفيا ومعنويا. ولهذا فإن في حرمان الفرد من هذا الكمال حرمان من وجه هام من أوجه السعادة والعدل. فيتحول الإنسان للشريد الطريد الحاضر الغائب، ويصبح فريسة سهلة للذئاب الفكرية.

وبالتالي على المجتمع أن يؤسس للنشطات الفكرية والترفيهية والثقافية والدينية التي تهذب النفس وتعزز روح المجموعة. وتعطي الفرصة للإنسان ليتكامل اجتماعيا. لا سيما بتسهيل الزواج وتعظيم فائدته ودوره في بناء الأسرة السوية التي تخدم الفرد والمجتمع بتهذيب الفرد ورعايته. على المجتمع أيضا أن يهتم بدور الأم في تربية النشء وصناعة نخب المجتمع سواء في العمل أو في المنزل وإن كان دورها في رعاية أبنائها أعظم فائدة من رعاية باقي البراعم لما تملكه الأم من الأثر المباشر والقوي في نفوس أطفالها بما لا يقبل الشك.

محور الراعي الرسمي

لماذا نسلم رقبتنا لمن يخون العهد ويتربص بنا؟ بل ولمن يزرع فينا الفساد والإرهاب والتطرف. وهل هذا هو البديل الوحيد. لقد رأينا في تحليلنا لنموذج التطرف أن الغرب بفكره وفلسفته لن يستحي أن يدعم لوجستيا وبكافة السبل تلك الأفكار التي يضمن منها بقاء مصالحه ولتذهب الشعوب للجحيم. ولكننا وفي نفس الوقت لا ندعوا لمقاطعة الغرب والانعزال. فهذه الثنائية الباطلة غير واقعية وغير حقيقية. فباب الذل والتبعية المدمرة أو الانعزال والانفصال عن بقية العالم ليس هو السبيل الوحيد للتعامل مع الغرب المستكبر. بل يوجد الطريق الحريص الذي يضمن أن يكون التفاعل الحضاري مع الحضارات الأخرى عموما هو تفاعل مفيد ومتحكم فيه، لا تفاعل خامل عقيم ولا خطير إنفجاري.

تصنف الحضارات بمحتواها الثقافي والفكري والذي ينقسم بدوره للذاتيات الفلسفية والأيديولوجية من جهة والمجهودات العلمية والإنجازات المادية من جهة أخرى. ولذلك فإننا في التعامل مع الحضارات الأخرى علينا أن نتبنى مبدأ الاحترام المتبادل للخصائص والذاتيات الحضارية والتي تشمل الرؤية الكونية (المعتقدات) والأيديولوجيات (السلوكيات). فلا نسعى لاحتقار ذاتيات الآخر ولا نقبل بتهوين أو تهديم ذاتياتنا. إن هويتنا الفكرية هي الأساس الذي أقمنا على أساسه النظام العادل نظريا والذي نسعى لتحقيقه عمليا كمجتمع. ولذلك فإن سُلِبنَا هذه الهوية فإننا لا نخسر الأوراق والأفكار فقط، بل حق وسبيل السعادة الذي نستحقه كمكون إنساني. إننا لا نسمح إلا بالعدل والحرية؛ فكل حضارة لها الحق في تبني مبدأها الفلسفي الخاص الذي يميزها و لديها الحق كذلك في السعي لتحقيق نموذجها دون بغي أو عدوان أو مصادرة لحق أي حضارة أخرى في تحقيق نموذجها. أما منطق القوة والبلطجة العالمية الذي تنتهجه بعض الأنظمة فعليه أن يُواجه بالحزم والحسم والشجاعة لأن هذا يُعد غزوا فكريا لا تفاعلا حضاريا وهذا من أشد المخاطر على المجتمع.

محور الموارد المادية

مع رعاية المواهب الفكرية والثقافية في المجتمع وتنميتها تظهر المواهب كما تثمر الصحراء بعد أن يمسها المطر. فلاينتظر المجتمع أن يأتي الغرب ويضرب له الأرض لتخرج كنوزها بل عليه أن يبادر بالطرق العلمية الصحيحة؛ ليستفيد من موارده الذاتية بما يحقق الاستغلال العادل للموارد واستقلالية الإرادة السياسية والفكرية للمجتمع. وطالما أن أي تعامل وتعاون مع الخارج يكون في إطار التفاعل الحضاري لا الغزو الفكري فإنه لا ضير. بل من الضروري أن تتبادل الدول والمجتمعات الخبرات، وأن تبعث الدول المتأخرة طلاب علمها لتتقن الطرق الجديدة والتقنيات المعقدة التي تسمح بتسخير المادة بشكل أرقى وأفضل ليعين المجتمع على تلبية حاجاته وتوفير الخدمات للأفراد.

محور الهوية الثقافية وحقيقة المجتمع

لماذا نتطرف ولماذا يخرج منا الإرهابيين؟ لأننا أصبنا بالعطب الفكري الذي شلَّ عقولنا وسرطنها، ثم أطلقنا شهواتنا على الدنيا لنلتهم منها كل ما تصل له أيدينا. إن الدنيا هي #موارد تحت سيطرة الإنسان ولكننا نستخدمها بالصورة الخاطئة التي تُسبب شقاءنا وتعاستنا. على الرغم من أنه يمكن وبالإصلاح الثقافي والاجتماعي أن نستغل نفس الموارد لتحقيق سعادتنا وراحتنا. إن الانجراف وراء الغضب والشهوة هو ما أوصلنا لتلك الحال المزرية. وإن التعقل والحكمة والنظر العاقل للأمور هو سبيلنا -لا محالة- للخروج من الأزمة. فلا نتوقع تحقيق السعادة دون معرفة حقيقة السعادة. ولن نعرف حقيقة السعادة قبل أن نعرف حقيقة #الإنسان. ولن نعرف حقيقة الإنسان إلا بالنظر لمنطلقات الوجود الإنساني وإدراكه. علينا أن نعيد حساباتنا وترتيب أفكارنا وطريق تفكيرنا إذا أردنا فعلا أن نُعالج من تلك الأمراض. ولكن قبل كل ذلك علينا أن ندرك ونعترف بحقيقة أننا مرضى فعلا وأننا في أمس الحاجة للمساعدة. فبدون اعترافنا بالأزمة والمصيبة التي نحن فيها يستحيل أن نتحرك لحل أي مشكلة.

#بالعقل_نبدأ

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.