من منطق الصحة إلى منطق الصلاحية
المُقدمة: تزيين سوء العمل بين قسوة القلوب والأخذ بظاهر القول
إن الطبيعة الإنسانية جُبلتْ على النظر إلى ما لا تستسيغه بوصفه ظلمًا وجورًا، إذ إنَّ الإنسان لا يصبر على ما لا يُحيط به خُبرًا، بل إنَّ الأمر قد يتجاوز عند بعضنا عدمَ الصبر إلى “تكذيب” هذا الذي لا يُحيط به علمًا وفهمًا، قال تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾، وليس هذا فقط بل إن الأمر قد يتطور إلى تزيين هذا التكذيب، إذ تُزيّن النفسُ للمرء منّا هذا التكذيب، ولا يُفكّر صاحبُها للحظة أن يُراجع تصوّره عن هذا الذي كذّبه، هل أحاط به علمًا أم لا؟! تأمل!
الخروج من تلك المتتالية
إن الخروج من هذه المتتالية المرعبة إنما يكون بربط “التصديق” بـ”الإحاطة”، بمعنى أنني لا أُسارع إلى التصديق إلا بعد توفية الإحاطة حقها وما تقتضيه من إلمام بموضوع التصديق، بهذا يكون المرء منّا في مأْمنٍ من هذه الخاتمة السيئة: تزيين سوء العمل، إذ إن وقوع الإنسان في ذلك التزيين مؤشر على صعوبة خروجه منه، نظرًا لأنه يُمارس عليه من أكثر المخلوقات التصاقًا به، ألا وهي: النفسُ والشيطانُ وقرناءُ السوء، وفق ما أشار القرآن.
القرآن مُحذِّرًا من تزيين سوء العمل
حذّر القرآن من تزيين سوء العمل تحذيرًا طويلًا، نستشف ذلك من المساحة التي أُفردت له ضمن كتاب الله، التي كانت تستهدف بالأساس الإشارة إلى سبب استساغة الأعمال المزينة عند أصحابها، فجاء الحديث عن تزيين بعض الأمور بطريقيتن:
الأولى: مباشرة
فنصّت على بعض هذه الأمور المُزينة، مثال ذلك:
1- الحياة الدنيا: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (٢١٢ البقرة).
2- حب الشهوات: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾ (١٤ آل عمران).
3- المكر: ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ﴾ (٣٣ الرعد).
4- قتل الأولاد: ﴿وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ﴾ (١٣٧ الأنعام).
الثانية: غير مباشرة
إذ عقّبت الآية بعد الحديث عن العمل وسوئه، بسبب استساغة تلك الأعمال السيئة عند أصحابها، ذلك السبب هو: تزيينها في قلوبهم، قال تعالى:
1- ﴿كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (١٠٨ الأنعام).
2- ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ (٤ النمل).
3- ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (٤٣ الأنعام).
4- ﴿كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (١٢٢ الأنعام).
5- ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ (٤٨ الأنفال).
6- ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (٣٧ التوبة).
7- ﴿كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (١٢ يونس).
6- ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (٦٣ النحل).
7- ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ (٢٤ النمل).
8- ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ (٣٨ العنكبوت).
9- ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ (٨ فاطر).
10- ﴿وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ﴾ (٣٧ غافر).
11- ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ (٢٥ فصلت).
12- ﴿زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ﴾ (١٤ محمد)..
إن ضخامة المساحة المعطاة لهذا المزلق –تزيين سوء العمل– في كتاب الله لهي دليل على أنه خطر داهم يتهدد الإنسان في كل زمان ومكان، وهو ما يعني ضرورة تيقظ الإنسان له حتى يأمن مخاطره.
أسباب الوقوع في تزيين سوء العمل
القصد أن هذا التزيين بالشر إنما يقع فيه الإنسان نتيجة أمور بعضها قلبي والأخرى عقلي، وهذا بيانها:
أ) القلبية
بيانها أن نعرف أن هذا التزيين بالشر، محله القلب، قال تعالى: ﴿وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (١٢ الفتح)، وقد بيّن الله في آية أخرى أبرز صفات أصحاب هذه القلوب وأنهم قساة القلوب، فقال تعالى: ﴿وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (٤٣ الأنعام)، فما كان لتزيين الشيطان أن ينجح لولا قسوة القلوب على نحو ما أشارت الآية، وهو ما يعني في المقابل أن تزكية القلوب ولينها حائط الصد المنيع في مواجهة هذا التزيين من الشيطان.
ب) العقلية
وهي المستهدفة بالأساس ههنا في هذه الكلمات، فيأتي على رأسها الأخذ بظاهر القول في الموضوعات التي يُعمِل الإنسان فيها فكره، أي: الأخذ بالظن غير المنبني على الرؤية الكاملة والمستوعبة لموضوعها، والأخذ بالظاهر أمر مذموم ومرذول، قال تعالى: ﴿يعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، وقال أيضا: ﴿أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ﴾، إذ إن المرء منا لو وقع في قبضة هذا الظاهر سيحسب الشحمَ فيمَنْ شحمُه وَرَمٌ.
الفرق بين الحق والحقيقة
ومن ثم يظن أنه متمسك بالحق وهو لا يدري أن ثمة فرقًا بين الحق المطلق والحقيقة المقيدة بسياقها وملابساتها، وأن الصواب أن ينشد الواحد منا الحقيقة التي هي الحق، ولكن وفقًا للسياق وملابساته، ولا ينحبس في عمومية الحق المطلق النظري الذي لا يختلف عليه عاقلانِ، فضلًا عن أن يتناطح فيه عنزانِ.
وهو ما يوجب علينا أن نُجلّي الفرق بين “منطق الصحة” الذي يؤمن صاحبه بقيم نظرية مطلقة سليمة سواء كانت دينية أم إنسانية أم علمية، و”منطق الصلاحية” الذي لا ينحبس صاحبُه في صحة القيمة بقدر ما يبحث عن تجلياتها على أرض الواقع وفي أتون التجربة عمليًّا لا نظريًّا، حقيقةً لا ادّعاءً.
واقعنا وأهمية التفريق بين منطق الصحة ومنطق الصلاحية
إن هذا الذي أريد كشفه والتدليل عليه من التفريق بين المنطقينِ لهو أمرٌ يتصل بواقعنا وحياتنا، وما يمور فيها من وقائع ومستجدات وأحداث جسام مؤثرة على حاضرنا ومستقبلنا أوثقَ صلة وأشدَّ ارتباطًا، إذ إنّه السبيل إلى كشف قصور الاختيارات التي قد تبدو في ظاهرها دينيةً أو علميةً أو حتى إنسانيةً، بيد أنها محصلة “منطق الصحة” المثالي النظري غير المُلم بالملابسات التي تجري على أرض الواقع، أكثر منها نتيجة “منطق الصلاحية” الواقعي المُقيَّد العملي النافع.
وفي كشف الغطاء القيمي عن هذه الاختيارات بيان لعوارها، وتسديد لخللها، ووقاية من شرها، وأكرر: وقاية من شرها، إذ إنها بـ”قيميتها” النظرية الناقصة تجعل المجتمع كالهشيم الذي ينتظر أن تشتعل فيه النار في وقت الأزمات، إذ إنها تضع الناس في مواجهة بعضهم بعضًا، مُوهمةً كلَّ واحدٍ منهم أنه الممثل للحق على هذه الأرض، وهو ما يُشكّل تهديدًا لوجودنا حاضرًا ومستقبلًا، فوجب التنبيه على ذلك.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا